ربا رباعي
تشكل رواية “دعاء الكروان” للكاتب المصري طه حسين واحدة من أبرز الأعمال الأدبية التي قاربت قضايا المرأة والمجتمع في سياق محافظ تسوده التقاليد الأبوية الصارمة. ليست الرواية مجرد حكاية مأساوية عن قتل فتاة بدعوى “الشرف”، بل نصًا غنيًا بالرموز والدلالات الاجتماعية التي تطرح أسئلة عميقة حول الحب، والعنف، والسلطة، والحرية. ومن هذا المنطلق، يمكننا النظر إلى “دعاء الكروان” كنص يكشف البنية السوسيولوجية للمجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين، من خلال ثنائية الحب والحرب بوصفها محورًا دراميًا وإنسانيًا.
الحب: مسار تحرري أم فخ عاطفي؟
في قلب الرواية، تقف شخصية آمنة بوصفها نموذجًا للمرأة المتأرجحة بين الخضوع والتمرد، بين الضعف الظاهري والقوة الكامنة. حبها للمهندس – الذي يمثل نموذجًا ذكوريًا متسلطًا ومتناقضًا – ليس مجرد تجربة شخصية، بل تعبير عن الاشتباك بين العاطفة والوعي.
في البداية، يدخل الحب إلى حياتها كحالة من الانبهار والارتباك، لكنه سرعان ما يتحول إلى مساحة مقاومة داخلية، حيث تجد آمنة نفسها تحب من كانت تنوي الانتقام منه، وهو ما يُنتج صراعًا وجوديًا يتجاوز البعد الشخصي ليحاكي المأزق النسوي في مجتمع أبوي. إن حب آمنة ليس استسلامًا، بل لحظة إعادة نظر في مفاهيم الذنب، العقاب، والتطهر.
الحرب: بين العنف الاجتماعي والانتقام الشخصي
الرواية لا تقدم الحرب بصورتها العسكرية، بل بصورتها الرمزية: حرب القيم، وحرب الكبت، وحرب السلطة الذكورية على الجسد الأنثوي. مقتل هنادي، الأخت الكبرى لآمنة، على يد عمها، يمثل ذروة هذا العنف، حيث تُستخدم المرأة كأداة لإثبات “الشرف” الذكوري المزعوم.
العم، بهذه الجريمة، لا يمارس انتقامًا شخصيًا، بل يخوض حربًا اجتماعية ضد كل محاولة أنثوية للتمرد أو الاختيار. وهنا تتحول العائلة من كيان حامي إلى أداة قمع، وتصبح العدالة مشروطة بمعايير أخلاقية منحازة للرجل.
أما آمنة، فتلعب دور “المقاتلة العاطفية” التي تدخل ساحة الحرب من بوابة الانتقام، لكنها تخرج منها بصفاء الوعي لا بسلاح الدم، حين تقرر في النهاية أن تسامح، لا بدافع الضعف، بل بدافع تجاوز الثأر نحو العدالة الإنسانية.
تقاطع الحب بالحرب: جدلية الذات والآخر
تكمن عبقرية طه حسين في تجسيده هذا التقاطع الحاد بين الحب والحرب داخل شخصية أنثوية واحدة. فآمنة، في آن واحد، عاشقة ومنتقمة، ضحية ومُطالِبة بالقصاص. هذه الجدلية تفتح أفقًا جديدًا لفهم العلاقة بين الفرد والمجتمع: فالمجتمع يفرض الحرب على المرأة باسم الأخلاق، بينما تختار هي الحب وسيلة للتحرر.
نهاية الرواية لا تكرّس انتصارًا تراجيديًا، بل تقدم نموذجًا لعدالة بديلة، عدالة نابعة من الإدراك الذاتي، ومن القدرة على اختيار المصير لا الاستسلام له.
البُعد السوسيولوجي: المرأة كذات فاعلة
من منظور سوسيولوجي، يمكن القول إن “دعاء الكروان” تطرح نموذجًا جديدًا للمرأة في الرواية العربية:
ليست المرأة في الرواية مجرد ضحية، بل ذات واعية تقرر وتختار.
الحب ليس عاطفة مسطحة، بل مساحة تفاوض مع السلطة الذكورية.
الحرب ليست خارجية فقط، بل صراع داخلي يعيد تشكيل الهوية الأنثوية.
وهكذا، تتحول الرواية من مجرد حكاية إلى مرآة لصراع طبقي-جندري في مجتمع يعيش على حافة الانفجار القيمي.
خاتمة
رواية “دعاء الكروان” ليست فقط إدانة للعنف الأبوي، ولا هي فقط قصة حب مستحيلة. بل هي محاولة جريئة لإعادة صياغة الأسئلة الكبرى حول الكرامة، الشرف، الحب، والحرية من خلال سردية أنثوية مقاومة. في تداخل الحب بالحرب، يكشف طه حسين عن هشاشة السلطة الأبوية، وقوة الحب حين يصبح وعيًا لا ضعفًا.
بهذا المعنى، تظل الرواية نصًا مفتوحًا على تأويلات سوسيولوجية لا تنضب، وتجسيدًا أدبيًا عميقًا للصراع الذي تعيشه المرأة بين ما تريده وما يُفرض عليها.
ربا رباعي
الأردن