الجمعة سبتمبر 13, 2024
مقالات

عامر شماخ يكتب: عمُرُك يمضي.. فانتبه!

مشاركة:

 هل تعلم أن العمرَ قصيرٌ للغاية وأنه يمر كسرعة البرق؟ إذا كنت شابًّا ربما لا تدرك هذه الحقيقة، لكن يدركها الكبار الذين بلغوا الكهولة أو الشيخوخة، ولو طلبت من أحدهم أن يستعرض شريط حياته لقصَّه عليك في ساعة أو بعض ساعة؛ مصداقًا لقول الله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [يونس: 45]، ومصداقًا لقول النبي ﷺ «ما مثل الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع»، وكقول نوح -عليه السلام-: «الدنيا كدار لها بابان، دخلتُ من أحدهما وخرجتُ من الآخر»، (نسير إلى الآجال في كل لحظة… وأيامنا تُطوى وهن مراحل).

إن يفاعة الشباب وحب الدنيا والانغماس فيها ينسيان المرء ضآلة الأعمار، كما أن الطموح والأمل يغريانه بالسعي والجري والتحصيل، ويلهيانه عن حقيقة الدنيا وفلسفة الحياة، وكتاب الله الكريم لخّص هذا المشهد في عديد من آياته، منها قوله تعالى في سورة الحديد: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد: 20].

وديننا لا يدعو إلى رهبانية ولا يأمر بقعود، بل حضّ على العمل والتكسُّب وإعمار الحياة؛ (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ…) [القصص: 77]، «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها)، لكنه في الوقت ذاته نهى عن أن نكون مطية للدنيا، نقضي فيها أعمارنا ثم نهلك كما تهلك الأنعام.

 أما العاقل فيسأل نفسه: ماذا فعلت في دنياك؟ وما الأثر الطيب الذي تركت؟ لا أن يردد قول الشاعر وهو على مشارف القبر (ثم انقضت تلك السنون وأهلها… فكأنها وكأنهم أحلام). فمتى يصحو الغافل؟ ويتوب العاصي؟ ويفيق قاطع الرحم؟ ويرتدع الظالم الغشوم؟

وبما أن الحياة قصيرة فلِمَ الإنهاك فيما لا طائل من ورائه إلا حبس النفس في دائرة الهمِّ والغمِّ؟ ولِمَ الجري خلف السراب؟ ولِمَ الغفلة عن الآخرة وهي خيرٌ وأبقى؟ اسأل نفسك: ماذا قدمت لنفسك التي ستُحاسب غدًا؟ وماذا قدمت لأهلك؟ وماذا قدمت لوطنك؟ وقبل كل هذا: ماذا قدمت لدينك؟

 للأسف يموت كثيرون غافلين عن كل هذا، فما قدموا شيئًا ينفعهم، وما استراحوا في الوقت ذاته من نكد الدنيا وبلاياها.. حكى لي من أثق به أنه حضر جنازة لقريب له، ولما حان وقت الصلاة عليها وجد مجموعة رجال يدفعون أحدهم لإدخاله المسجد وهو يمتنع، فلما سأل علم أن الرجل لم يدخل مسجدًا من قبل ولم يصلّ لله ركعة واحدة وقد جاوز الستين من عمره، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

اترك أثرًا في دنياك قبل أن تغادر، انهض وافعل خيرًا، أو انصر حقًّا، أو رد مظلمة، ولا تقعد قعود الثكالى مغتمًّا على ما فاتك من الدنيا، قم واسع في الخير قبل أن تقول: (لو استقبلت من عمري ما استدبرت!)، الشباب فرصة من أعظم فرص الإنسان لاستثمار العمر وتحسين الحياة، ومن شبَّ على شيء شاب عليه. ليكن ديدنك أيها الشاب والشابة: الصلاح والإصلاح قبل أن يصيبك العجز وعدم المقدرة؛ فإنه كما أولنا ضعف فآخرنا أيضًا ضعف (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم: 54].

 يموت كثيرون ممن غرتهم الحياة الدنيا يوم يموتون فلا تسمع لأحدهم ذكرًا، ويموت آخرون فيظلون في ذاكرة الأمة رغم مرور العقود والقرون (قد مات قومٌ وما ماتت مآثرهم… وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ) والأخيرون قد عاشوا على الصدق والإخلاص، وانتفع بهم القريب والبعيد، واقتبسوا الهدى، وتعلموا وعلّموا، وعملوا بما قال الشافعي -رحمه الله-: (فدع عنك سوءات الأمور فإنها… حرامٌ على نفس الكريم ارتكابها).

 إن الكلمات القصيرة الرائعة التي طمأنت بها أمُّنا خديجة نبينا محمدًا ﷺ يوم نزل عليه الوحي، لتستحق أن تكون نظرية في هذه المسألة؛ فإنه من يفعل خيرًا يجده، ومن يُعِن يُعَن، والعزَّ والشرف لمن سعى إلى الرشاد والإصلاح وأوصل المنقطع وأغنى المحتاج، ولا حياة لمن عاش

مهمومًا بنفسه مشغولًا بذاته عبئًا على غيره، لا يُرى منه خير وليس منه منفعة.

Please follow and like us:
عامر شماخ
كاتب صحفي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب