أقلام حرة

عبد العظيم محمد يكتب: مشهد من معركة الفلوجة

بالأمس ونحن نشاهد الصور التي بثتها كتائب القسام عن محاولة تحرير الأسير الفاشلة التي قامت بها قوات الاحتلال، هذا المشهد ذكرني بمشهد عايشته أثناء تغطيتي لمعركة الفلوجة الأولى في نيسان 2004.

في خضم تلك المعركة وعندما كانت القوات الأمريكية تطوق المدينة من كل الجهات وتفرض عليها حصارا شديدا، كانت هذه القوات تحاول إحداث ثغرة في دفاعات المقاومين من أجل التقدم باتجاه وسط المدينة، وكانت كل محاولاتها تفشل وسط مقاومة شديدة من المدافعين عن المدينة.

وفي إحدى تلك المحاولات تقدمت قوة أمريكية من جهة لم تحاول فيها من قبل، من جهة جنوب المدينة ودخلت «حي نزال» المعروف فيها، وسارت وسط الأحياء السكنية، وبحكم عملي الصحفي تابعت تفاصيل هذا التطور الميداني، وأخبرني أحد القادة الميدانيين في ذلك الحي أنهم كانوا يتابعون تحرك القوة الأمريكية منذ وصولها إلى أطراف الأحياء السكنية، لكنهم تركوها تدخل حتى تنقطع عن القوة التي تقف على أطراف المدينة، وحتى تصل إلى مكان بحيث يتمكنون منها، بمعنى أن هذه القوة الصغيرة كانت تسير نحو كمين ينتظرها، وبالفعل عندما وصلت إلى المكان الذي كانت تنتظرها فيه المقاومة، فُتح عليها النار من كل الاتجاهات وحدث اشتباك شديد، وكنا نسمع بشكل واضح حدة هذا الاشتباك، حيث كنا قريبين من الموقع.

في ظل هذا المأزق الذي وضعت فيه القوات الأمريكية لم تستطع القوة المحاصرة أن تحصل على الدعم من القوات التي تقف على أطراف المدينة، ربما لأنها خشيت أن تقع هي الأخرى بكمين مشابه، وفي هذه الأثناء قامت طائرة مقاتلة أمريكية بالتحليق بشكل منخفض جدا بحيث نشاهدها في الجو بوضوح، وصارت تفتح الصوت لترهيب المقاومين وتخويفهم لفك الحصار عن القوة الأمريكية المحاصرة، لقد  كان الصوت رهيبا ومرعبا لكنه لم يكن كافيا لردع المقاومين، وطبعا لم تستطع تلك المقاتلة أن تطلق صواريخا على المقاتلين بسبب تقارب الطرفين من بعضهما، وقيل: إن التقارب كان على مسافة نحو ١٠ أمتار.

لقد كانت وسط هذه القوة الأمريكية مدرعة فيها رشاش يطلق النار بشكل متواصل وفي كل الاتجاهات، وكان المقاومون يحاولون استهدافها، لكن كثافة النيران كانت لا تعطي فرصة لهم.

في خضم حدة الاشتباك تقدم مقاوم يحمل سلاح «أر بي جي» ضربها وضربته في الوقت نفسه ومن مسافة قريبة، دمرها واستشهد هو على الفور.

استمر الاشتباك نحو ساعة وانتهى بتدمير القوة المهاجمة، ولم تستطيع القوات الأمريكية من سحب بقاياها إلا بعد دخول الليل.

كان فريق الجزيرة يقيم وقتها قريبا من المستشفى الوحيد الذي يعمل وسط مدينة الفلوجة، ويستقبل القتلى والمصابين، وبينما كنا نجلس في مكان إقامتنا جاءنا طبيب من المستشفى يسأل عني، أخبرني أنه يقترح على الذهاب معه إلى المستشفى لمشاهدة مشهد غير مألوف، عندما سألته عن المشهد، قال: إنه يفضل أن أشاهد بنفسي، وعندما وصلنا شاهدت تجمعا صغيرا للأطباء والعاملين بالمستشفى حول جثة شاب موضوعة في الساحة الخارجية للمستشفى، وعندما اقتربت منهم أخبروني أن هذا الشاب هو الذي استهدف المدرعة الأمريكية عصر اليوم. مشهد هذا الشاب لا يمكن وصفه لمن لم يعشه، كانت رائحة جميلة جدا تخرج من جسده وتملأ المكان، جسده ممدد على الأرض ووجهه كأنه نائم يشاهد حلما جميلا ترك أثره على ذلك الوجه، وله هيبة لا تسعف الكلمات وصفها. طلب مني أحد الأطباء ان أقترب أكثر، وقال لي: شاهد مكان الجرح القاتل الذي أصيب منه، كانت الإصابة في رقبته من جهة اليسار، وكان مكان الجرح صغير جدا، قال الطبيب: يبدو أن شظية صغيرة أصابته في هذا المكان. كان الدم يخرج من الجرح الصغير ولم يكن غزيرا، قال الحاضرون: إن الرائحة الجميلة مصدرها دمه، أخذت بإصبعي قليلا من دمه، وبالفعل كان الدم كأنه عطر زكي فواح، بقيت هذه الرائحة في يدي لعدة أيام، كان الشاب الشهيد يرتدي فانيلة سوداء أُعطيت قطعة صغيرة منها (٢ سم) بقيت عندي نحو ثلاثة أشهر لم تخرج منها الرائحة.

هذا الحدث والقصة استذكرتها وأحببت مشاركتها، فلعل قصص الشهادة تمثل وجها من أوجه النصر، وهناك من يجد من يروي قصته وهناك من لا يجد، في الفلوجة وغزة وغيرهما. وحسبهم أن ما عند الله خير وأبقى، والعبرة لمن يخلفهم ويسمع بهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى