أقلام حرة

عبد الله آمين يكتب: صناعةُ «التنابلة»

حقيقةً، لم أكن أعرف لهذه المفردة «تنبل» معنًى لغويًّا، إذ كنت أظنها في بادئ الأمر لفظةً دارجة، فلا أذكر أنها صادفتني في قاموس من القواميس، رغم اطلاعي الواسع في معاجم اللغة ومفرداتها. لكن سبحان الله! اصطدمتُ بهم في الواقع.

ذلك أني جلستُ في دُكانتي المتواضعة، التي لا تدرّ إلا دخلًا يكفي بالكاد لشراء الشاي والسكر الشهري، وعلى الرغم من ذلك، لا يكاد يمرُّ صباحٌ إلا ويقطع عليّ قهوتي شابٌّ يافع، مفتول العضلات، موفور القوى، يصلح -بلا مبالغة- أن يكون مظليًّا محترفًا أو في سلاح الصاعقة المصرية.

لكن سرعان ما تنطفئ جذوةُ حماسي لهذه الفكرة حينما أراه متبذِّلًا، مبهدلًا -وللعلم، «مبهدل» ليست دارجة ولا عامية، بل فصيحة يا صديقي- الشاهد أنه رثُّ الهيئة، ثائرُ الرأس، يحمل صفيحتين علّقهما في خشبة ليتمكن من حملهما معًا؛ في الأولى شحم، وفي الثانية زيت «وسخ» -آسف يا صديقي، هكذا يسمونه!- ثم يخرج فرشاة كأنما صُنعت من القطران، فيلوك بها جانبي باب دكاني المسكين، ثم يلقف الخمس جنيهات لقفًا كأنما يختلسها اختلاسًا، ثم يتنقل بين المحلات مكررًا المشهد نفسه، لينقلب إلى بيته آخر النهار وجرابه حافلٌ بمئات «الخمسات»، في حين أن كل محلٍّ ربما لم يحصل نصفَ ما حصّله هو في نصف نهار!

ولم أكد أرتشف رشفتي الثانية من قهوتي حتى جاء أخوه، يلوِّح من بعيد بكوزٍ مربوطٍ بسلسلة ثلاثية الأبعاد، والدخان يتطاير من كوزه مصحوبًا بالشرر، وهو يردد جُمَلًا مسجوعة كما لو كان يحضر عفريتًا! ولسان حاله: «إن أعطيتَنا بخّرناك، وإلا أحرقناك!» ثم يتلقف هو الآخر الخمسة جنيهات الأخرى، وهو ينظر إليها نظرة ساخطة، مستقلًّا لها، ثم ينقلب ليزاول مهنته، مخلفًا لي في الدكان سحابةً إذا أخرجتَ يدك فيها لم تكد تراها!

ثم بعد ذلك، يأتيك أمثالُ هؤلاء تباعًا، وكلهم يحسنون استخراج ما في جيبك أو في درجك طوعًا أو كرهًا، وكلٌّ منهم قد اخترع لنفسه طريقةً لا تشبه طريقة أخيه، لكنها تشترك كلُّها في أمورٍ:

1- أنها لا تصلح أن تكون مهنةً للتكسب.

2- أن المزاوِل لها يصلح أن يُربَط في ساقية!

3- على حدِّ قول القائل: «ضحك على الذقون»!

4- أنها وباءٌ مجتمعيٌّ قاتلٌ وصامت.

5- أن أصحاب هذه السخافة والعبثية الممنهجة، سواء أكان بائع المناديل، أم ذاك الذي «يسرح بالفل البلدي» في الإشارات، أم بائع الكتب الصفراء، أم غيرهم، كلهم صناعةُ يدي ويدِك، يا صديقي!

إنما بدأت هذه المأساةُ واستفحلت حين قررتُ أنا وأنتَ أن نشتري أدمغتنا ونعطيهم، حتى لا يُصدِّعونا، فصنعنا بأيدينا -من حيث لا نشعر- ما يُعرَفون به اليوم بـ«التنابلة»!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى