عبد الله سعيد الصامت يكتب: قارون يعود في كل مرة
لا زالت قصة قارون تتجدد في كل مراحل التأريخ ومنعطفاته، خصوصًا عندما تتعرض الأمة، للهزات وتبتلى بالمحن والضعف.
قارون يتردد في المنعطفات التأريخية الحرجة.
في عصرنا لم يكن المتمرد الوحيد، كما كان في عصر موسى، فقد شاهدنا ألف قارون وقارون، كلهم يبغي على قومه وأمته.
في هذا العصر خرج امثاله الكثير، يدوسون على رقاب بني قومهم، ولا يطلبون إلا أن يرضى عنهم فرعون،
فهم يقدمون له كل انواع الطاعة والولاء المشبوه والملطخ بالتنازلات عن الثوابت والقيم، والذي لا يبرر،
إلا بأنهم عصاة منحرفون امتشقوا سيف العقوق، ووضعوه في خاصرة لأمة.
إنهم يدورون في فلك فرعون، حيث دار، يقفزون كالقرود على الحواجز ليس لهم هدف إلا إظهار الاعجاب الكامل به،
فهم لا يؤمنون إلا به ويكفرون بغيره، فهواهم هواه ووجهتهم وجهته.
يقبلون ظهر المجن لقومهم ولأمتهم، بل ويرمونهم بأنواع التهم، التي يمليها فرعون عليهم.
إن كان قارون موسى انسلخ من قومه وبغى عليهم،
ونكص على عقبيه الى فرعون وقدم له التأييد، والولاء، والطاعة…
على الرغم من أنه يفعل بقومه الأفاعيل، وهم بني جلدته، فلم تجد مع نفسيته، المارقة، صلة القرباء وداعي القومية والدين، بل تمادا حتى أنه انسلخ انسلاخا من انتمائه الإنساني،
فلم تؤثر فيه مناظر ذبح الأطفال الصادمة، واسترقاق النساء، ومعانات الأهل ولومن منظور انساني.
الإبادة الجماعية والاضطهاد العرقي
مر على فرعون زمن طويل، وهو يمارس القمع والتنكيل والإبادة الجماعية والاضطهاد العرقي، في بني إسرائيل،
ولم يتوقف عن ممارسة الجريمة في حقهم يومًا، فهو مستمر في نشر الجواسيس والأعين، في الأوساط،
لكي يصل اليه خبر من يولد من الذكور من بني إسرائيل، حتى إذا وصل الخبر اليه
أرسل الجنود الغلاظ الشداد ليذبحوا، ذلك الرضيع ذبحًا أمام أعين ألأهل، الذين لا يملكون حيلة.
قارون لم تحركه أية مشاعر، إنسانية أو وطنية، أو قومية، أو عرقية، أو عصبية من تلك المشاعر الإنسانية التي كيان الإنسانية،
حتى يستفز أو يتألم على ما يجري، فلم يستنكر عملًا من تلك الأعمال الإجرامية البشعة من قبل فرعون، أو يدينها،
ولم يحاول تذكير فرعون بأنه مخطئ، ويصرفه عن جرمه، إنما استمر يبحث عن ما يرضي ساديته،
وذهب يلقى باللوّْم على قومه، أنهم كانوا هم السبب فيما يحصل لهم، فلولا تصرفاتهم ما فعل فرعون ما فعل.
فرعون يستحيي نساء بني إسرائيل
عندما كان فرعون يستحيي نساء بني إسرائيل، فيحولهن قهرًا الى جواري لخدمة المصريين،
فيقضين حياتهن في الأعمال الشاقة والعبودية، الخارجة عن حدود الإنسانية،
كان هذا لا يهمه، فهو في نظره واقع لا يمكن تغيره.
قارون أصلًا ونسبًا من بني اسرائيل فجيناته الوراثية تقول ذلك، وهو يعلم ذلك، فلم يكن دخيلًا عليهم،
حتى يجد له مبررًا في الخيانة والتنكر، وحتى يسارع في الارتماء، في احضان فرعون وتقديم الولاء الكامل له،
ولمْ يكن يومًا من الأيام مولًا، من مواليهم جاء من أرض بعيدة وعاش بينهم،
ولم يكن دونهم نسبًا،
ولَم يكن في نفس الوقت، محتاجا للمال، فقد كان ماله يضرب به المثل لكثرته.
لم يكن هناك سببا مقنعًا يدعوه لخيانة قومه، فهومن خيرة بني إسرائيل نسبًا، فهو ابن عم موسى وقيل بل كان عمه، من لحمه ودمه.
دعته نفسه المنحرفة الدنيئة، أودعته مصالحه الشخصية الأنانية، أو خوفه وجبنه، أو ضعف إيمانه، للانسلاخ من جلده،
والوقوف في صف فرعون متنكرًا لقومه ومؤيدًا لتلك التصرفات الشنيعة والعنصرية من قبل فرعون، ضد أهله،
وذهب ينعق، بالتهم الجاهزة التي رددها فرعون، ليرم بها قومه،
فهم ليسو سوى (شرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائظون) وهم منكرون للخير الذي،
يغدق به عليهم فرعون، وهم متآمرون على الوطن، يسعون لنشر الفوضى والفساد وتغير العقيدة التي اختارها لهم فرعون.
لكي يثبت ولائه لفرعون، يضع ماله الكثير وإمكاناته تحت تصرف فرعون،
من أجل إلحاق الهزيمة بهذه الشرذمة القليلة، الغائظة والحاقدة والحاسدة.
الخلاصة
إن قصة قارون تتجدد في مراحل التأريخ ومنعطفاته،
فقارون اليوم هناك بكل صفاته، يقف إلى جانب، فرعون العصر، يغض الطرف، عما يفعل بإخوانه وبني قومه، في غزة ولبنان،
بل إننا نشاهده بلا خجل، يقف إلى جانب فرعون منسلخًا، عن دينه وقوميته ورجولته وإنسانيته، وشجاعته،
وكل ما يتصل بحياته كإنسان، ثم ذهب يردد ما يردده فرعون.