مقدمة:
تتسارع التحولات على الأرض السورية وسط تصعيد عسكري متواصل وضغوط خارجية متشابكة، حيث تتكاثر بؤر التوتر، ما ينذر بمرحلة أكثر تعقيدًا في مسار الأزمة السورية.
الاحتلال لا يكتفي بالضربات الجوية أو بدعم مجموعات عميلة هنا وهناك، بل يسعى إلى ما هو أخطر: تفتيت البنية الاجتماعية السورية من الداخل، وإعادة رسم خارطتها الطائفية بما يخدم أمنه القومي على المدى البعيد.
ففي الجنوب، يحاول العدو أن يستثمر موقف الزعيم الدرزي الروحي حكمت الهجري، والذي خرج عقب أحداث جرمانا مطالبًا بـ«حماية دولية»، لتغذية خطاب الأقلية المضطهدة الذي يتبناه، وهكذا يسعى الاحتلال من خلاله لأن تكون طائفة الدروز كتلة حاجزة متحالفة تفصل بين الدولة السورية والكيان الصهيوني، في سيناريو مشابه لحزامه الأمني السابق في جنوب لبنان.
وفي ظل حالة الإنهاك المستمرة للدولة السورية، يعمل الاحتلال على تكريس تقسيم رباعي: شمالٌ كردي بدعم أمريكي، وساحلٌ علوي بحماية روسية، وجنوبٌ درزي في كنفه، ووسطٌ هش مستنزَف بين الفوضى والضغط الاقتصادي.
من جهته لا يسعى نتنياهو لإيقاف الحرب في المنطقة، فنتنياهو المحاصر داخليًا بملفات فساد وأزمة ثقة عميقة مع الشارع الصهيوني ومؤسسات الدولة، يرى في الحرب المستمرة طوق نجاة سياسي، إذ تتيح له الإمساك بمقاليد القرار الأمني وتجاوز الانقسامات الداخلية تحت لافتة «وحدة الجبهة»، وهو يعتقد أن أي تهدئة طويلة ستعيد الانقسام الداخلي إلى الواجهة، وتُضعف حجته في البقاء رئيسًا لحكومة تآكل رصيدها.
إنه يُدرك أن أي عودة إلى الوضع السياسي السابق تعني تصدُّع ائتلافه الحاكم، وربما نهاية مسيرته السياسية، لذا صار استمرار الحرب ضرورة وجودية له، فبقاؤه السياسي رهن ببقاء الساحة مشتعلة، وأي تهدئة تُعدّ إعلان بداية نهايته.
محددات المواجهة مع العدو الصهيوني في الجنوب السوري
في لحظة فارقة من تاريخ بلاد الشام، تتجدد بوادر المواجهة مع العدو الصهيوني على جبهة الجنوب السوري. ليس من الغريب أن يكون الجنوب هو المسرح المختار، فلطالما سعت دولة الاحتلال إلى إشعال الحرائق في أطراف الأمة، حيث تظن أن قبضتها الأمنية والعسكرية قد ضمنت فراغًا في الإرادة، أو خمولًا في الردع.
لكن سوريا اليوم ليست هي سوريا الأمس، فمع تشكل حكومة جديدة، ورسوّ مشروع جديد، فإن سؤال التعامل مع الاحتلال لا ينبغي أن يُطرح في سياق عاطفي، بل في إطار مشروع مقاومة شامل،
له محدداته الشرعية والسياسية والاستراتيجية وأبرزها المحددات التالية:
1-حتمية المعركة، لكنها ليست معركة يُحدد العدو ميقاتها
أول هذه المحددات هو إدراك أن معركتنا مع الاحتلال الصهيوني معركة حتمية، لا مناص منها، ولا تراجع عن بوصلتها، غير أن هذه الحتمية لا تعني أن العدو يُمنح صلاحية اختيار ميقاتها، أو تحديد شروطها، فمنطق الجهاد والمقاومة في الإسلام لا يقوم على الانفعال، بل على الإعداد والرصد والرباط، “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ”، هو المنهج الذي يهدي خطوات هذه الأمة وهي تُقبل على أي مواجهة مع العدو.
في هذا السياق، تبدو تحركات الاحتلال في الجنوب السوري جزءًا من خطة متكررة، تسعى لتكرار سيناريو «سعد حداد» في جنوب لبنان سابقا، حين سعى العدو إلى صناعة «حزام أمني» يخدم مصالحه تحت غطاء طائفي أو مناطقي، وقد رأينا في الآونة الأخيرة كيف يحاول الصهاينة استغلال وضع الدروز في الجنوب عبر تسريبات إعلامية وتدخلات محدودة، لإيجاد ذريعة للتوغل أو لقلب المشهد المحلي.
2- تأهب استراتيجي واجب:
الحكومة الجديدة في دمشق عليها أن تتعامل بعقل استراتيجي خاصة مع ضغوط الشارع الانفعالية، فليس من الحكمة أن يختار العدو الزمن والساحة والميدان، وبهذا الفهم، يصبح التأهب واجبًا فالتأهب، كما قرره العلماء، واجب شرعي إن خشي العدو، وهو اليوم فرض استراتيجي لا يستقيم المشروع التحرري بدونه.
ومن المحددات الضرورية في هذه المرحلة، أن يُصار إلى تصدير خطاب تعبوي واضح، يربط عموم الناس بواجبهم الشرعي تجاه العدوان الصهيوني، فالمعركة مع الاحتلال ليست قضية نخبة عسكرية، بل هي قضية شرعية تتعلق بمصير الأمة، وتتطلب تهيئة عقدية وشعبية تُغذّي الجبهة الداخلية، وتحصّنها من الاستنزاف النفسي أو التضليل الإعلامي.
3- تطهير الجبهة الداخلية من بقايا النظام البائد، وبناء نظام شورى فاعل
والجبهة الداخلية لا يمكن لها أن تصمد في وجه عدوان خارجي إن لم تُطهَّر من بقايا الفساد والخيانة، إن رواسب النظام البائد لا تزال تشكّل خطرًا حقيقيًا على مشروع التحرر، سواء من خلال الاختراق الأمني، أو محاولة إعاقة القرار السيادي عبر ولاءات خارجية. ولذا، فإن من أولويات الحكومة أن تعمل على استئصال هذه الجذور المسمومة، وبناء منظومة شورى داخلية تؤسس لقرارات جماعية مع شركاء الثورة والمقاومة، تضمن مشاركتهم الواسعة في تحديد مسار المرحلة ويُفسح فيها المجال لفاعلية مؤسسات الفتوى الأهلية والأوقاف.
4- مقاومة شعبية فاعلة تسدّ ثغرات الاستعداد العسكري
في ظل هذا الواقع يبرز دعم المقاومة الشعبية في المناطق الحدودية حلا عاجل فاعلًا في آن كما تجلى خلال اشتباكات أهالي درعا الأبطال مع الاحتلال خلال الشهر الماضي، فحين لا يكون الجيش النظامي قد بلغ بعدُ جهوزيته الكاملة، فإن دعم الشعب للقيام بدوره في المواجهة المحددة على الأطراف تصبح فرصة مناسبة، وقد أثبتت التجارب، من العراق إلى فلسطين، أن المقاومة الشعبية قادرة على إنهاك العدو، ونزع وجوده، بل وتشكيل سدّ دفاعي في وجه أطماعه، ريثما تتهيأ البلاد لمعركة أكبر.
5- استقلال اقتصادي يمنح القرار السياسي حرّيته
ولعل من أهم شروط نجاح هذه المرحلة، أن تُبنى رؤية اقتصادية مستقلة لا تقوم على الاستجداء من العواصم الخليجية أو الغربية، إن أي دعم مشروط هو قيد في معصم القرار السياسي، ولن يصنع اقتصادًا مقاومًا.
ومن هنا، فإن على الحكومة أن تنفتح على شركاء إقليميين غير خاضعين للهيمنة الغربية، وأن تشجع الزراعة المحلية، وتدعم الصناعات الصغيرة، وتمنح الأولوية للاكتفاء الذاتي، وفي هذا الإطار، يمكن النظر إلى تركيا باعتبارها حليفًا قريبًا، لكن هذا التحالف يجب أن يكون ضمن ضوابط الاستقلال السورية، فتركيا قد تملك ورقة ضغط في ملفات الجنوب، وقد تكون قادرة على تحجيم أطماع الاحتلال دوليًا، لكن لا ينبغي أن يُنظر إليها باعتبارها ضامنًا دائمًا، بل شريكًا ظرفيًا ضمن منظومة مقاومة واستقلال.
وفي المحصلة، فإن التعامل السوري مع الاحتلال لا يمكن أن يكون مجرّد ردة فعل غير محسوبة، ولا انكفاءً يحاكي سياسة الأنظمة السابقة، بل يجب أن يكون معادلة دقيقة، تقوم على ما سبق ذكره من أعمدة خمسة:
1- حتمية المعركة، لكنها ليست معركة يُحدد العدو ميقاتها.
2- تأهب استراتيجي شامل يُغذّيه خطاب تعبوي صريح وواضح.
3- مقاومة شعبية فاعلة تسدّ ثغرات الاستعداد العسكري.
4- تطهير الجبهة الداخلية من بقايا النظام البائد، وبناء نظام شورى فاعل.
5- استقلال اقتصادي يمنح القرار السياسي حرّيته.
بهذه المحددات، يترجح أن تدخل سوريا عهدًا جديدًا، لا تكرّر فيه أخطاء الماضي، ولا تسقط في فخاخ العدو، بل تبني مستقبلًا يليق بتضحيات شعبها، وكرامة أرضها، وعدالة قضيتها، إنها معركة طويلة النفس، لكنها معركة تُخاض تحت راية التوحيد، وبتأييد شعبٍ ما انكسر، وإن أعيته الجراح.
{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.