علاء سعد حميده يكتب: سمات دولة النبي ﷺ
عند تناول دولة النبي ﷺ في المدينة يرى البعض أنها تجربة فريدة فذة في التاريخ لا يمكن تكرارها مرة أخرى في تاريخ البشرية، بينما يتمسك آخرون بإمكانية تكرارها والدعوة إلى إعادة إقامتها ربما بنفس الشكل الذي كانت عليه في عهد سيدنا رسول الله وخلفائه من بعده.
ولا شك عند دارسي التاريخ عموما أن الوقائع والحوادث المرتبطة بحقبة تاريخية ما لا يمكن تكرارها بحذافيرها كاملة، ولا يمكن استنساخها كما وقعت في الماضي، فهذا ضد مبدأ تطور البشرية. بينما سمات ذات الحقبة التاريخية يمكن تكرارها واستنساخها مرات عدة. فالوقائع بنت بيئتها وزمانها، والسمات قيم خالدة تتجدد صور تطبيقها ويظل جوهرها ثابتا.
وبتطبيق ذلك على دراسة دولة سيدنا رسول الله ﷺ، نجد أن الوقائع والحوادث لا يمكن تكرارها بذاتها، ولا هو مطلوب شرعا تكرارها، فالهجرة النبوية مثلا حدثا فريدا في التاريخ لا يمكن تكرارها، بل أعلن النبي ﷺ نهاية مرحلتها فقال. “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية”. لكننا يمكن أن نأخذ من واقعة الهجرة النبوية سمات وقيم عديدة مثل: التضحية والفداء، والتخطيط الدقيق، واستشعار معية الله عندما تتعطل الأسباب، والثقة في النصر، والعمل الدائب للخروج من ضغط الواقع، وغيرها من القيم السامية، تلك القيم يمكن تكرارها، بل يجب على المسلم تطبيقها تأسيا برسول الله ﷺ.
واقعة بناء المسجد النبوي على سبيل المثال، وهو مسجد فريد له خصوصية تعبدية لا يمكن إعادة بناء مثله، وقد امتلأت جنبات العالم اليوم بملايين المساجد. بينما تبقى سمة المجتمع والدولة ارتباطها بالمسجد، وتوجيهات وأخلاق وروحانية المسجد، ومركزية المسجد والعبادة، ودور الربانية في المجتمع، ورباط الأخوة الاجتماعي القائم على صحبة المسجد.
عندما ندرس دولة النبي ﷺ وقائع وحوادث، إنما ندرسها بهدف استخراج سماتها وقيمها ومبادئها. غزوة بدر واقعة فريدة في التاريخ البشري لا تتكرر شخوصا ومكانا وأحداثا، لكن سماتها أن النصر من عند الله وحده، الشورى التي مارسها رسول الله وإشارة الصحابة عليه، الوفاء لأصحاب فضل سابق من المشركين، الثبات في المواجهة وذكر الله كثيرا، تثبيت المواقف الإنسانية الكثيرة التي أقرها سيدنا رسول الله في حروبه، عدالة القائد مع جنوده وهو يصفّهم للمعركة الفاصلة.
إن دراسة دولة النبي ﷺ دراسة وافية تكشف عن سمات عظيمة مثل الربانية، الدستورية (صحيفة المدينة)، المواطنة التي سمحت ليهود المدينة ببقائهم وفق شروط وطنية تضمن الحقوق والواجبات، الشورى مبدئا وتطبيقا، التمثيل النيابي (أخرجوا عرفاءكم)، العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي، العدل المطلق وسيادة القانون، احترام التخصص ونشأة المؤسسات، الأمة مصدر السلطات، الحكم الذاتي للأقاليم، مدنية الدولة والمجتمع لا كهنوتي ولا عسكري، تقدير العلم والتعليم والعلماء، تفعيل دور المرأة، تمكين الشباب، الاهتمام بالفنون والآداب، طبيعة الحاكم البشرية فهو لا يحكم بالحق الإلهي المطلق.
يخطئ من يظن أن قراءة التاريخ لا خير فيها، ولا فائدة منها، وإنه إذا قُرئ فإنما للتسلية والترفيه باعتباره حوادث غير قابلة للتكرار. بينما لفت القرآن الكريم إلى أهمية استخراج السمات من قصص التاريخ فعبّر عن فائدة القصص القرآني بقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)111يوسف، هذه العبر هي السمات التي نبحث عنها ونرصدها عبر قراءة دولة النبي.
وكذلك يخطئ من يدعو إلى إعادة تكرار التاريخ بوقائعه وأحداثه خطأ مركبا وخطأه الأكبر، يتجه نحو العقيدة، إن محاولته استنساخ دولة الإسلام من العدم، كما أنشأها سيدنا رسول الله من قبل. تجعله يتصادم مع واقع وجود أمة مسلمة مليارية مترامية الأطراف موجودة بالفعل، ولم تكن موجودة قبل إنشاء سيدنا رسول الله دولته. فهو محكوم إذن بإهدار إسلام هذه الأمة المليارية وهو خطأ عقائدي، حيث لا تخول له العقيدة تكفير الناس بدون وجه حق. وهذا ما وقع فيه أصحاب نظريات جاهلية المجتمع، أرادوا تكفير المجتمع دون تكفير آحاد الناس، بينما كان الأيسر لهم أن يدعون إلى تطبيق سمات دولة رسول الله في المجتمع والدولة، وصولا إلى مجتمع أكثر صلة بالله، وأقرب رُحما بمجتمع رسول الله ودولته.
علاء سعد حميده
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية