بحوث ودراسات

فاتن فاروق عبد المنعم تكتب: القدس.. ملتقى الأنبياء (17)

منطقة الحضور المقدس:

أعظم مصيبة ألمت باليهود بعد نقض المعبد على جبل صهيون هي فقدانهم فردوس الأندلس حيث عصرهم الذهبي في ظل الإسلام، خرجوا إلى بلدان كثر من بينها دول أوروبا الذين مارسو عليهم الاضطهاد المعادي فكان يتم ترحيلهم من مدينة إلى أخرى في القرن الخامس عشر وظلوا طيلة مائة عام يدبجون الخطط والمؤامرات القذرة والوضيعة كرد فعل للاضطهاد الأوروبي والروماني قديما وعضو الأيدي الإسلامية التي لم تمتد لهم إلا بكل خير ليفعلوا بنا الأفاعيل فيما بعد، أغراهم فينا سماحة واحترام نابعة من «الدين الإرهابي الذكوري الذي لا يقبل بالآخر….» فلا يمكنهم ذكر كل حامل لراية الإسلام إلا بكل خير، فلما تمكنوا وأصبح أحفاد الرومان والصليبين القدامى ظهيرا حاليا لهم اتحدوا معا لمواجهة «الإسلام» الذي يقف حائط صد منيع للشيطان وحزبه الذي يعيث في الأرض فسادا.

فتح العثمانيون القسطنطينية وتولوا سدة الحكم، راود اليهود حلم العودة إلى القدس لإقامة مملكة داوود، ومعبد يهوه على جبل صهيون، فكانت هذه هي مهمة داوود الرأبيني الذي ذهب إلى هناك، وركز على الحائط المهدم المتبقي من معبد يهوه والمواجه لباب المغاربة (إحدى أبواب المسجد الأقصى) وحتى ذلك الوقت لم يكن اليهود يهتمون بهذا الحائط أو يقيمون صلاة عنده ولكن كانوا يصلون على جبل الزيتون وعند بوابات المسجد الأقصى بعامة وعندما منعهم الصليبيون من دخول المدينة كانوا يصلون عند الحائط الشرقي لجبل المعبد.

وأثناء إقامة حائط القدس أصدر سليمان القانوني مرسوم يسمح لليهود بالصلاة عند الحائط الغربي ويقال إن «سنان» حاكم المدينة التابع للدولة العثمانية في ذلك الوقت هو الذي قام بتخطيط الموقع وبالحفر كي يتيح للحائط ارتفاعا أكثر وقام ببناء حائط مواز له كي يفصل مصلى اليهود عن حائط المغاربة، هذا الحائط أصبح يمثل لهم الرب والذات اليهودية في آن.

 تلك المنطقة سرعان ما أصبحت مركز الحياة الدينية لليهود بالقدس، وامتدح اليهود سليمان القانوني ووصفوه بصديق وارع لإسرائيل، ومن مقامي هذا بدوري أتساءل لماذا؟ وما هذا التساهل والإفراط؟!

«هل اليهود اخترقوا الدولة العثمانية من المهد، وتسللوا إلى عمودها الفقري كي نصل إلى هذا الوضع المزري؟»

وحول هذا المكان «الوليد» على يد العثمانيين نسج اليهود أقوال تلمودية ونسبوها ليهوه وبدأوا بخلع أحذيتهم عند الدخول لهذا المكان للصلاة، وكلما خطوا إلى تلك المنطقة شعروا أنهم في منطقة الحضور المقدس، فيصدق فيهم القول: يكذبون الكذبة ثم يصدقونها.

تبعات حتمية:

زاد التوتر بين المسئولين وبين اليهود بسبب تواجدهم حول المسجد العمري الملاصق للمعبد وازدياد استفزاز اليهود للمسلمين، وحدث أن قام المسلمين بإغلاق المعبد اليهودي في فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي فناصر القاضي اليهود وأعاد فتحه وفي عام 1556م وازداد عدد المتعبدين اليهود بالمعبد فقام المسلمون بمحاولة طردهم وكانت شكواهم أن اليهود يعصون القانون بمحاكاتهم زي المسلمين وتغطية رؤوسهم بشيلان كما المسلمين أثناء الصلاة، وأنهم يعلون من أصواتهم للتشويش على المسلمين أثناء الصلاة في المسجد المجاور، فصدر حكم نهائي بإغلاق المعبد، وحدثت مشادات مشابهة عند قبر النبي صمويل وفي هذه المرة صدر حكم نهائي بالإبقاء على معبد اليهود.

تدهور الدولة العثمانية:

أثر تداعي الدولة العثمانية على الحالة الاقتصادية للمدينة مع ظلم حكامها لساكنيها فقامت حركات تمرد كثيرة اتحدت فيها كل الملل والطوائف لأنها تتماس مع مصالحهم اليومية التي أصابها الكساد، وانسحب الانقسام على الطوائف المسيحية من الفرنسيسكان اللاتين والأرمن والأقباط والكاثوليك والبروتوستانت واليونان بعدائهم المستحكم مع الفرنسيسكان، وتجلى هذا عند إقامة قداس كل طائفة عند القبر المقدس، حيث أن لكل طائفة ساعة كمدة زمنية لتقيم القداس الخاص بها وتقف الطوائف الأخرى تنتظر مع السخرية والاستهزاء الذي يثير الضغينة والبغضاء حد التراشق بالأيدي مما يستدعي تدخل جنود الانكشارية الذين يحيطون المكان لتأمينه، وكل طائفة ترى أحقيتها بحماية ورعاية الأماكن المسيحية المقدسة، وبالطبع تطل الانحيازات السياسية برأسها لتتدخل في إعلاء طائفة على أخرى، فانتهى الحال بأن قامت عائلة مسلمة بتسلم مفتاح كنيسة القبر المقدس للإشراف على المصلين، وظل هذا الوضع حتى يومنا هذا والعهدة في ذلك القول على كارين.

وامتد الشقاق إلى الطوائف اليهودية، كل طائفة منهم ترى أنها الأحق برعاية المعابد المقدسة.

وعرجت كارين على حكم محمد علي والتي أثنت عليه! بأنه الساعي والداعي للتحديث من خلال إنشاء الحكم العلماني واستبعاد المحاكم الشرعية، حتى بلغت نقطة فاصلة مرة أخرى وهذا اعتراف من راهبة بأن الدين لم يعد يعني الأوروبيين، مفادها أن مسيحي أوروبا الذين كانوا ينهارون بمجرد رؤيتهم للقبر المقدس وكنيسة المهد وطريق الأحزان والذين كانوا يمشون فيه يمارسون ملحمة جنائزية من الصراخ والبكاء واللطم هم أنفسهم الذين توقفوا عن هذه الأفعال ولم يعد إتيانهم للقدس من أجل الحج وممارسة شعائرهم الدينية وإنما كسياح معنيين بالآثار الرومانية والبيزنطية وفخامتها أكثر من اهتمامهم بالأماكن المقدسة، أكثر من هذا أنهم أصبحوا ينظرون لمن يفعلون هذه الممارسات بشيء من السخرية واتهامهم بالخبل والجهل، والسبب في ذلك عصر النهضة التي ابتدأته أوروبا بالميراث المسروق من المسلمين بالأندلس وأثناء الحروب الصليبية، جعل الأوروبيون يتجهون بالكلية لدراسة العلوم التجريبية وهجر الدين ورجال الكنيسة بسلطتهم وكهنوتهم الذي أرهقهم وكبلهم.

ولنا هنا وقفة:

حتى لا تضيع الحقيقة ويلتبس الأمر على العوام فإنه من الواجب التنويه لحقيقة محمد علي الذي أثنت عليه كارين، مشيرة في ذلك إلى أن القدس أصبحت أفضل تحت حكمه العلماني لأن بناء الكنائس والمعابد وإصلاحها وترميمها وبناء المدارس التابعة لمختلف الكنائس والمعابد أصبح متاح دون قيد أو شرط مما عد عصرا ذهبيا لهم، ولكنها هي نفسها من ناقضت نفسها بنفسها (وأرى هذا اللغط بسبب أنها راهبة في الأصل) قالت أن الفرنسيسكان اللاتين بعد انتهاء الحروب الصليبية عندما طلبوا من السلطان العثماني أن يسمح لهم ببناء كنيسة لم تكن بغرض التعبد كما يتضح بمجرد النظر وإنما كان لأنهم يريدون إشعال الحروب الصليبية مجددا لاستعادة القدس من أيدي المسلمين، واعتبر الفرنسيسكان أنفسهم أنهم الأفضل والأحق بالقيام على رعاية الأماكن المسيحية المقدسة لمجرد شروعهم في إشعال الحروب الصليبية مرة أخرى.

فرنسا عندما احتلت مصر بغرض تحديثها! وتخليصها من المماليك مارست الأهوال وغرست بذرة كل ما نعانيه الآن بما فيه الدعوة إلى إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين، أكثر من هذا عندما أدرك نابليون أنهم سيرحلون عن مصر أرسل لكليبر أن يختار خمسمائة من المصريين وإرسالهم إلى فرنسا كي يتعلموا ويعودوا إلى مصر باللغة والتقاليد والقيم الفرنسية لينشروها في مصر وقد كان وحدث ما لم يخطر ببال نابليون نفسه، فنم وقر عينا.

محمد علي تمت صناعته على أعين المخابرات الفرنسية والإنجليزية لتفكيك الكتلة (الدولة العثمانية) وكسرها واختراقها وفرط العقد المنضوم ليسهل التحكم في الدول التي قسمت فيما بعد بإشعال النعرات العرقية والأصول القديمة(من العروبة، والترك والتتر والأمازيغ، والبربر والبلغار…..إلخ) التي احتواها جميعا فسطاط الإسلام الضافي، محمد علي كان يفسح الطريق للأجانب بكل الممكنات ويفضلهم على المصريين بإسناد الوظائف العليا لهم، غير إفقاره المتعمد للمصريين من خلال اتباع نظام الالتزام وغيرها من الأهوال، وهو من ساعد الفرنسيين أثناء احتلالهم للجزائر.

ونجحت خطتهم وانفرط العقد، واليوم يتم تقسيم المقسم على قدم وساق على مرأى ومسمع منا جميعا دون وجل، ولما لا ولم يتم تدارك الأمر من حال المبدأ وهم يمارسون علينا الجريمة المنظمة دون وجود رجل رشيد ينادي بتدارك الأمر.

 وهذا لا ينفي ولا يعمينا عن عوار العثمانيين والمماليك، حيث كان من الواجب بل الأوجب إصلاح ذات البين وعدم إعطائهم الفرصة، ولكن هذا لم يحدث حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، تقسيم المقسم كي يقيم اليهود مملكة داوود بقيادة مسيا الذي لن يظهر لهم إلا بقضائهم على المسلمين الإرهابيين، وهكذا كل جيل منا يورث الجيل الذي يليه الأخطاء المتراكمة تقية حتى يأتي الجيل المستحق لنصر الله.

وللحديث بقية إن شاء الله

فاتن فاروق عبد المنعم

كاتبة روائية وعضو اتحاد كتاب مصر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى