السبت يوليو 6, 2024
بحوث ودراسات

محمد إلهامي يكتب: السجال السلفي الأشعري

السجال السلفي الأشعري سجال علمي متخصص لا يطيقه إلا فئة قليلة من الناس، مثله في ذلك مثل أي سجال علمي متخصص في أي مجال آخر!

ولو وُلِد المسلم ومات، ولم يسمع شيئا من هذا السجال، فلن يؤثر هذا على إيمانه، ولن يُسْأَل عنه يوم القيامة.. فهو نقاش علمي رابض في ركن التصور النظري لمسائل عقدية، لا تخطر ببال أغلب المسلمين أصلا!

ومثلما يُصاب المجتمع العلمي -في أي مجال- بالفزع مما ينتشر على شبكات التواصل من محاولات تبسيط العلوم وتسطيحها، فقد وقع مثل ذلك في السجالات العلمية المتخصصة في العقيدة أيضا.. وطفق من لم يفهم الموضوع ولم يستكمل أدوات العلم يطلق العبارة الساخرة، أو يرسم الكوميكس الضاحك، يظن نفسه على شيء وعلى ثقة، ولو دخل أدنى حوار علمي مع متخصص فطُرِحت عليه الأسئلة لحار فيها!!

وهذا الموضوع العلمي المتخصص، موضوع لا ينبني عليه عمل في الدنيا، بل ولا ينبني عليه زيادة في التقوى والخشية لله، فالخير لجميع الأمة فيه أن يبقى محصورا في أروقة البحث المتخصص، فلا يتعرض الناس له فضلا عن أن يُمتنحوا به!

لقد قرأت قبل يومين عجبا، أحدهم يقول: نحب النووي ولكن عقيدة ابن شمس الدين أصح من عقيدة النووي!!! فأصابني هذا بالفزع والرعب حقًّا، فلئن كان قد وقر في قلوب بعض الناس أن العقيدة هي نقاط المسائل الكلامية النظرية فهذا خطر على إيمانه هو، وهذا تقزيم خطير لقضية الإيمان كلها!

بل هو تشويه لها بتضخيم الفروع وتقزيم الأصول.. وبها يصير أئمة العلم والدين والتقوى ممن عُرِف علمهم وبلاؤهم وتقواهم ووقوفهم للسلطان الجائر أقل شأنا من فسل قزم ليس له بلاء لا في علم ولا في دعوة ولا في التصدي لجائر، وقصارى ما حاز من الدنيا حسابا على الفيس أو قناة على اليوتيوب يتعارك فيها على بنود كلامية لا تزيد في العلم ولا في الخشية.

وهذا يفتح معنا بابا خطيرا.. ذلك هو:

إن التشبث بهذا السجال بين أهل الحديث والأشاعرة له أثر خطير آخر، لا سيما على من توقف عنده. وهذا الأثر الخطير ينجو منه عقلاء الناس ولا يسقط فيه إلا شرارهم وأصحاب العقول الضيقة والقلوب المتشنجة منهم.. أقصد بذلك: مسألة تقزم الأمة وانكماشها في أذهانهم وقلوبهم.

إن الذين خاضوا في المسائل الكلامية محل النظر هم قلة من بين بحر العلماء الضخم الذين زخرت بهم الأمة.. والمتجادلون في هذه المسائل لا يجدون من يصرح بالأقوال فيها إلا عددا قليلا.. لو صحَّ انطباعي فلن يتجاوز المائة بحال.. وأما بقية العلماء الذين تفجرت بهم الأمة من الصين إلى الأندلس عبر ألف وأربعمائة عام، فليست لهم في هذه المسائل إلا عبارات عامة وموجزة، ولهم النسبة إلى المذهب المنتشر في زمانهم وبلادهم!

وأما صالحو المسلمين من السلاطين والأمراء والفاتحين والمجاهدين، فهم أكثر من العلماء عددا، وأقل منهم مشاركة في هذا السجال.. وهم في العادة أتباع لما ساد في زمانهم وبلادهم، ولما تعلموه من مشايخهم وعلمائهم.. فمنهم من كان على طريقة أهل الحديث ومنهم من كان أشعريا ومنهم من كان ماتريديا، بل منهم من كان معتزليا.. وهكذا!

فهذه الأزمة الكلامية إذا تلبست نفسية السلفي أو الأشعري، فيوشك أنه -إذا لم يكن له حظ من العلم يعصمه من خلط المراتب، أو لم يكن له حظ من قلب يتسع للمسلمين- يبغض وينفر من صالحي المسلمين وصفوتهم لأنه -عنده- متلبس ببدعة أو واقع في مكفِّر!

بل لن يسلم أحد من هذا -إلا الصحابة- وقد شهدنا من يتوقف في إسلام أبي حنيفة ومن يتوقف في إسلام ابن تيمية.. ثم خذ طابورا طويلا عريضا من الصالحين والفاتحين الكبار المشاهير مثل نظام الملك وألب أرسلان وابن سبكتكين ونور الدين وصلاح الدين ويوسف بن تاشفين ومحمد الفاتح وأورنجزيب وسائر الملوك الصالحين من العباسيين والعثمانيين والسلاجقة والزنكيين والأيوبيين والمرابطين والموحدين وملوك الهند والترك وغيرهم على امتداد بلاد المسلمين في آسيا وإفريقيا وشرق أوروبا والأندلس!

هذا المنظور العقدي الضيق لن يمرر إلا أفرادا معدودين ليكونوا هم وحدهم المرضيين عند صاحبنا الذي ضاق عقله وقلبه عن محبة المسلمين، لأنه قد تشبع وامتلأ بمعركته العقدية الضيقة التي لا يشعر بها أكثر المسلمين أصلا.

بل وأشد من هذا أنه لن يفهم الحياة، ولن يتصور تعقدها وتركبها ونماذجها الغريبة، فإن الحياة لا تجري على السياق المضطرد لمذهبه العقدي هذا.. ومن الطرائف المذكورة هنا أن رجلا مثل عباس الأول (حفيد محمد علي) كان ميالا للوهابيين، وغامر مغامرة خطيرة حين أطلق سراحهم من سجن جده الجبار الطاغية محمد علي، ثم هو هو نفسه الذي اهتم ببناء مسجد السيد البدوي، وحمل حجارته بنفسه -وهو الباشا الحاكم- وأمر بزيادة أيام المولد إلى أحد عشر يوما بعدما كانت ثمانية، وكان يجلس يستمع إلى دروس الشيخ الباجوري شيخ الأزهر الأشعري!

ما كان هذا الرجل أشعريا ولا وهابيا.. إنما كان يحب الدين على القدر البسيط الذي يعرفه منه، فلما رأى دينا عند الوهابية كان معهم، ولما رأى دينا في بناء المساجد كان معه، ولما كانت الموالد من مظاهر الدين عمل على زيادتها!!

رجل مثل هذا ينبغي أن يُقَدَّر ويُعَظَّم، لأنه كان شذوذا عن مسار علماني تغريبي قبيح أسس له جده وعمه، ولم يمهله الوقت لمكافحته، فاستمر وترسخ في عصر من بعده، وقد كان ضحية اغتيال غامض لا تُستبعد منه يد الأجانب الذين كانوا يبغضونه ويبغضهم لما كان عنده من الدين ولما كان عنده من التصدي لهم.

هذا الذي ينبغي أن يُقَدَّر ويُذكر، إذا نزل إلى ساحة الجدل السلفي الأشعري نبذه الفريقان من فورهما، ولم ينظروا إلى ما كان فيه من الدين والحمية، بل نظروا لما كان فيه من المخالفة لهم.

لهذا أقول، إن فتح المعارك الدقيقة المتخصصة على عموم الناس، أو حتى على عموم الطلاب قبل أن يتشربوا الأصول الكبرى من الولاء للمسلمين ومحبتهم واتساع الصدر لهم.. فتح هذه المعارك سيُضِّيق نفوسهم وقلوبهم وعقولهم عن تقدير العظماء بل عن فهم الحياة المعقدة والمركبة.. وهؤلاء -بهذا الشكل- أبعد الناس عن القدرة على الإفتاء في النوازل والتدبير للأمة في نكبتها المعاصرة.

تأمل معي، كيف يمكن أن يفعل طبيبٌ تعلم الطب من حلقات تبسيط العلوم على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم اتخذ لنفسه طريقة في الطب آمن بها ونافح عنها ودخل فيها المعارك، فكان -مثلا- مع أبقراط ضد جالينوس، أو مع مدرسة ابن سينا ضد مدرسة الزهراوي.. كيف سيفعل هذا إذا وُضِع أمامه مريضٌ بمرضٍ معاصر ونادر؟!!

من أجل هذا أنادي إخواني وشيوخي من المدرستيْن: كلما كففتم أيدي إخوانكم وطلابكم عن إخراج هذه السجالات من بيئتها العلمية كلما حاصرنا أمراضا تنتشر في بيئتنا الإسلامية.

Please follow and like us:
محمد إلهامي
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
قناة جريدة الأمة على يوتيوب