مقالات

محمد إلهامي يكتب: المصلحة والمفسدة

ما نعيشه الآن من كارثة سد النهضة يجعلنا نعيد التذكير والتكرار والتأكيد على أمر مهم وفارق، والفارق بين إدراكه وبين الغفلة عنه كالفارق بين النصر والهزيمة.

مبدأ المصلحة والمفسدة..

هذا مبدأ راسخ في حسابات أي طالب علم وأي فقيه، وهو مدار عملية صناعة الفتوى واتخاذ الموقف الشرعي.. والمبدأ في نفسه هو مما اتفق عليه العقلاء من البشر.. ولكن الإسلام يجعل معنى المصلحة ومعنى المفسدة خاضعا للتقدير والميزان الشرعي وليس مجرد الحسبة الدنيوية.. ولهذا يفارق الإسلام -بل أصحاب الأديان والمبادئ- الملحدين والفاسدين، لأن المصلحة عندهم هي مجرد المنفعة واللذة البرجماتية غير الأخلاقية.

ولكن من المشكلات التي يعاني منها مجتمع العلماء المسلمين، وهي فرع عن أنه مجتمع مقهور بسلطات وأنظمة طغيانية، أن هناك خللا في فهم المصلحة والمفسدة، ناتج بطبيعته عن خلل في فهم المعركة وشدتها في الواقع.

فمثلا، لو رجعنا إلى أيام الانقلاب على مرسي (وهذا مجرد مثال واحد، اخترته لقرب العهد به.. وأمثاله في تاريخ أمتنا المعاصر كثير) وحاولنا أن ننظر في عقل الفقيه وطالب العلم النزيه والمستقل.. سنجد أن كثيرا منهم كان يرى ويقرر بعدم الدخول في مواجهة مع الانقلاب.. لماذا؟ لحقن الدماء ولكي لا تتطور الأمور إلى ما لا تحمد عقباه.. فحسبة المصلحة والمفسدة في ذهن الفقيه أن مواجهة الانقلاب العسكري مفسدة شديدة تفوت بها مصالح كثيرة.. بينما الاستسلام له هو احتمال أدنى الضررين وأقل المفسدتين.

هذا الفقيه نفسه سنراه فيما بعد محتفيا للغاية بفشل الانقلاب على أردوغان، ومشيدا بوعي الشعب التركي الذي نزل وواجه الانقلاب و… و… و…. إلخ!

وهذا الفقيه نفسه هو الذي لو استفتاه الناس قبل خروجهم في 25 يناير لكان قد منعهم من ذلك وحرَّم الخروج في الثورة، لذات المفسدة التي يخافها: سفك دماء المسلمين وخراب بلادهم.

ونحن هنا نتكلم عن الفقيه النزيه، أما علماء السوء والسلاطين فليس كلامنا هنا عنهم، وإنما أولئك حمير الحكام، دينهم هو رغبة الحاكم.

ما أريد التركيز عليه هنا هو هذا الخلل في حسبة المصلحة والمفسدة.. إن الفقيه يتركز نظره وبصره على (هنا) و(الآن).. على اللحظة الحاضرة والبلد المحدودة.. ولا يمدّ بصره ليحسب حسبة المصلحة والمفسدة إذا استمر هذا النظام أو سقط هذا النظام على الأمة كلها.

نعم، قد يكون الفقيه عاجزا عن تصور المستقبل والمآلات.. ولا يُحسن أن يتبصر عواقب الأمور.. وقد يكون جبانا يحسن أن يتصور ويتبصر ولكنه لا يجرؤ على الفتوى واتخاذ الموقف الصحيح بالمواجهة.

ربما يجب ألا ينفرد الفقيه ببناء التصور، ربما يكون بحاجة إلى من يفهم ويبصر لكي يشرح له المآلات.. فالناس يتفاوتون في المواهب كما يتفاوتون في الأرزاق.

ومع ذلك، فيجب القول بأن لدينا مشكلة عامة في التصوم العام لبيئة العلماء والفقهاء وطلبة العلم في تقدير شأن المصلحة والمفسدة.. وأنا أعرف من لا يُتَّهم في دينه ولا في إخلاصه وقد رفض الخروج في يناير، ودعا مرسي للتنحي، ورفض مواجهة الانقلاب، وكاد يتكلم برفض مواجهة الانقلاب في تركيا… وكل هذا تحت نفس العنوان: الدماء والمصلحة والمفسدة والأوطان و…. إلخ!!

هذا الكلام الذي أكرره الآن، حتى أنني مللتُ من تكراره، إنما أعيده الآن في ظل كارثة سد النهضة لكي أقول لأسيادنا العلماء وإخواننا من طلبة العلم.. يجب أن تكون حسبة المصلحة والمفسدة أبعد مما تتصورون، وأبعد من اللحظة الحاضرة والمكان المحصور.

تسليم البلد لمن يعرف بالخيانة حفظا لأرواح العشرات أو المئات أو حتى الآلاف ليس مصلحة.. بل هو في واقع الأمر سفك لدماء الملايين وعشرات الملايين على مدى السنين!!

كل العلماء المعاصرين تقريبا يعرفون قصة عبد الناصر والإخوان المسلمين، ويعرفون كيف غرقت مصر بل وبلاد العرب في أحلك عصورها ظلما وقتلا وهزيمة وتخلفا، والسبب أن الإخوان “تورعوا” عن مواجهة عبد الناصر حقنا للدماء.. فكانت حسبة المصلحة والمفسدة القاصرة المحصورة هي النتيجة في ضياع مئات الملايين لستين سنة على الأقل!

وما يحدث الآن في مصر من ضياع الجزر وغاز المتوسط والنيل هو النتيجة التي ساق إليها حساب المصلحة والمفسدة المحصورة والقاصرة عند لحظة الانقلاب!

لم نكن نعلم الغيب.. ولم يتوقع أحد أن يصل التفريط إلى هذا الحد.. ولكن يجب أن يقال: أنه كان لدينا من الدلائل والبراهين ما عرف به كل عاقل يقظ أن هذا الانقلاب هو انقلاب على الدين وعلى الشعب، وهو انقلاب دعمه كل طوائف الشر: من أمريكا وأوروبا والإمارات والسعودية وحتى الراقصات والبلطجية وأسافل الناس.. كانت الصورة واضحة تماما حتى ولو افتقدنا تفاصيل الغيب المكنون.

إن ضمير الأمة والناس في مثل هذه المواقف أفضل من عقول المحسوبين على العلم والفقه في الجملة..

وربما يكون للعلماء بعض العذر، فإن الانعزال في الكهوف العلمية، والابتعاد عن فهم ما يجري في واقع السياسة ينتج ولا شك ضمورا في التصور وغبشا في الرؤية واختلالا في التقدير.. ولكنهم في النهاية هم المسؤولون عن تغيير هذا الحال وعن انتشال أنفسهم وانتشال الأمة كلها من هذا المصير المظلم.

إن الطغاة اليوم ليسوا هم طغاة الأمس.. طغاة الأمس مهما فجروا كانوا من أبناء هذه الأمة وإفرازها، وقد كانوا يظلمون ويقاتلون إذا دهمهم العدو.. أما طغاة اليوم فهو عملاء العدو ورجاله، بهم وصلوا إلى الحكم وبدعمهم يستمرون، وإذا تهدد نظام الحكم نزلت جيوش العدو بنفسها لتحفظ حكم العميل ولا تسمح بسقوطه.

أعرف أنه كلام مكرر، ليس لدي غيره، وسأظل أكرره مع كراهتي للتكرار.. أعلل نفسي بأن الذكرى تنفع المؤمنين وبأن القرآن الكريم -وهو خير الكلام- كرر المعاني العظيمة كثيرا.. ولكني لا زلت أرى وأجد أن كثيرا ممن يجب أن يكونوا قادة الأمة ومشاعل حركتها في حاجة لسماع هذا الكلام لكي يحسنوا التوجيه والقيادة.

محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights