مقالات

محمد إلهامي يكتب: في الخلاف بين ابن حجر وابن خلدون

كتبتُ تعليقا عند صديق كريم، فرغب إليّ من لا أكاد أردّ له طلبًا، أن أفرد هذا التعليق في منشور جديد لتعم الفائدة.. فها أنذا أفعل. مع بعض زيادات!

كان الموضوع عن رأي ابن حجر في ابن خلدون، فقد أشار ابن حجر إليه في كتابه «رفع الإصر عن قضاة مصر»، وحطّ فيه من شأن مقدمة ابن خلدون، ورأى أن المقريزي قد بالغ في الثناء عليها، واستنتج ابن حجر أن شدة إعجاب المقريزي بابن خلدون ليست راجعة إلى تفوق علمي، بقدر ما أن المقريزي أعجبه أن ابن خلدون يثبت صحة نسب العبيديين (الفاطميين) إلى فاطمة، ومعروفٌ أن المقريزي من المتعاطفين مع دولة العبيديين (الفاطميين)، وتحتمل عبارة ابن حجر أن يكون المقريزي نفسه من نسلهم.

والآن نبتعد عن المقريزي، ونقترب من ابن حجر وابن خلدون..

ما سأذكره الآن هو استنتاج من عند نفسي، خرجتُ منه بممارسة كتبهما، فإن يكن حقا فمن فضل الله، وإلا فمن خطأ نفسي ومن الشيطان.

ابن حجر واسع المعرفة بالتاريخ عميقها، بل أزعم أن هذا الجانب من مواهب ابن حجر لم يزل غير معروف ولم يسلَّط عليه من الضوء ما يستحقه، وتبدو هذه الموهبة التاريخية لابن حجر لمن يتتبع كتاب “الخلافة الراشدة والدولة الأموية من فتح الباري” للدكتور يحيى اليحيى..

ففي هذا الكتاب تظهر طريقة ابن حجر ومنهجه في معالجة الآثار والمرويات التاريخية، ويبدو منها الآتي:

1- قوة علمه بالآثار وحفظه لها وتنبهه لطرقها، وقد أمدَّته قوته الحديثية بالقدرة على وزن هذه المرويات.

2- ابن حجر من أكثر من رأيت من العلماء جنوحا إلى التوفيق بين الآثار المتعارضة، فهو لا يذهب إلا الترجيح إلا إن انسدت مسالك التوفيق بحال!.. وأغلب الظن أن هذا من آثار ملكته الفقهية القوية واطلاعه الهائل على تراث الفقه وأصوله،

وقد أنتج هذان الأمران مزيجا يجعل ابن حجر نافرا من أمريْن:

1- استخلاص القاعدة الكلية إن لم تكن مدعومة بنصوص متضافرة.

2- الإسراع إلى الحسم والترجيح قبل محاولات التوفيق!

وابن خلدون، رغم ملكته الفقهية واطلاعه على الأصول، إلا أنه سلك في المقدمة مسلكا يسرع فيه إلى الحسم والترجيح لا إلى التوفيق.. ويجعل القاعدة التي استخلصها حاكمة على الأثر الوارد تاريخيا، فيسارع إلى تضعيفه ونفيه بمحض العقل..

وهذا أمرٌ يتحسس له الفقيه المحدث الأثري من مدرسة ابن حجر.. والحق هنا مع ابن حجر لا ريب، وفي مقدمة ابن خلدون أمثلة من قبول الأخبار وردِّها يُنازَع فيها.

فهذا -فيما أرى- أهم ما سبب نفورا لدى ابن حجر من طريقة ابن خلدون.

فإذا أضفنا إلى هذا موقف الرجلين من علي ومعاوية.. وجدنا سببًا آخر مهما:

كلا الرجلين -لا ريب- من أعلام أهل السنة، وأهل السنة يحبون عليا ومعاوية ويفضلون عليا ويعذرون معاوية..

إلا أننا لو جعلنا أهل السنة دائرة فجعلنا يمينها من يميلون إلى علي بأكثر مما يعذرون معاوية لكان فيهم ابن حجر الذي يرى أن عليا كان مصيبا في كل حروبه ويرى أن الناصبي هو من لا يرى عليا مصيبا في كل حروبه.. (وهذا ليس موقف جميع أهل السنة كما هو معلوم)..

فإذا جعلنا يسار هذه الدائرة من يعذرون معاوية ويرون لموقفه وجها قويا ويستغربون سياسة علي في الفتنة ويرون أنه كان من فضل الله على الأمة وجود معاوية فإن هذا اليسار فيه ابن خلدون..

فابن خلدون هو صاحب أقوى دفاع عن موقف معاوية -فيما أعلم- من أهل السنة، حتى موقفه من توريث يزيد. (وأنا أميل إلى موقف ابن خلدون هذا).

فهذه المسألة، وما وقع فيها من التنافر بين ابن خلدون وابن حجر، زادت في التنافر بينهما.. وإليها يشير ابن حجر في رفع الإصر، وينقل رواية عن شيخه فيها أن ابن خلدون يطعن في الحسين مع إقرار ابن حجر أن نسخة ابن خلدون من المقدمة تخلو من هذا الذي نقله شيخه.

كذلك لم يرض ابن حجر عن ابن خلدون في تصحيحه نسب العبيديين (الفاطميين).. وقال بأن هذه المسألة هي سر إعجاب المقريزي بابن خلدون.. وفي كلام ابن حجر نظر ليس هذا مقام بيانه.. ولكن هذه المسألة داخلة فيما ذكرتُ سابقا من أن ابن خلدون يضع القاعدة التاريخية ثم يحكم بها على الأخبار المشتبهة..

وذلك أنه لما استقر عند ابن خلدون أن الملحق بالقوم لا يتزعمهم، وأن الزعامة تكون في صلب نسبهم.. لما استقرت هذه القاعدة عند ابن خلدون لم يكن له إلا أن يصحح نسب العبيديين (الفاطميين) إلى فاطمة، فهؤلاء قوم قد قادوا وسادوا وحكموا بلادًا عظيمة، لا يمكن معها -وفقا لابن خلدون- أن يستطيع صاحب دعوى كاذبة أن يصل إليها.

وقاعدة ابن خلدون صحيحة في الجملة، ولكن تنزيلها على العبيديين مشكل، لأن العبيديين أبناء دعوة سرية، وقد يتم في التنظيمات السرية ما لا يمكن أن يتم في الأجواء العلنية المفتوحة.. فالقوم لا يتزعمهم في أحوالهم الطبيعية العلنية من هو مُلْحَق بهم غير صريح النسب فيهم، أما القوم الذين خرجوا من دعوة سرية بشوكة قاهرة ثم غلبوا فسادوا، فإن تصديق الكذب والتحاق الدعيّ ممكن في أيام الإعداد السري!

ومثل هذه المسألة في نفسها، ثم طريقة ابن خلدون في استنتاجها، لا يمكن أن يقبلها رجل أثري نسابة عريق في الأخبار مثل ابن حجر..

كذلك يلوح لي سبب آخر، فإن ابن حجر قد عرف بسماحة الأخلاق وخفض الجناح واللين، وأما ابن خلدون فكانت فيه شدة وحدة لا سيما إذا تولى منصب القضاء، كما صرح الذين ترجموا له!

وقد أجاز ابن خلدون جماعة فيهم ابن حجر، وخط إجازته محفوظ.. فهل يكون هذا التنافر في الطباع قد أورث لدى ابن حجر شيئا في نفسه؟..

محتمل، والله أعلم.

محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى