مقالات

لماذا تظل فكرة تهجير الفلسطينيين حية بعد ثلاثة أرباع القرن؟

محمد إلهامي

تعال أخبرك بالسؤال الذي سيتجاهله الجميع في قصة تهجير الفلسطينيين..

لماذا تظل فكرة تهجير الفلسطينيين حية بعد ثلاثة أرباع القرن؟!

لسبب بسيط.. دعني أحكيه لك بعد قليل!

لكن أصل الحكاية غريب جدا، وهو أيضا لا يعرفه كثير من الشعوب التي جرى التآمر على وعيها..

لقد خرج الفلسطينيون من أرضهم في 1948م، لسبب بسيط وواضح جدا، لقد كانوا يوقنون أنهم يخرجون منها لفترة بسيطة مؤقتة، وسرعان ما ستأتي الجيوش العربية، فتطرد العصابات اليهودية، فيعودون إلى بيوتهم!!

بهذه البساطة والوضوح خرج الفلسطيني من بيته وهو يحمل ما خفَّ وزنه، ولم يكن يستكثر من متاعه، فالأمر أشبه بانتقال مؤقت لا أكثر!

لو أنك دخلت إلى عقل الفلسطيني في ذلك الزمن، وحاولت أن تفهم خبرته التاريخية، فسترى أنه يختزن في ذاكرته أيام الحرب العالمية الأولى، فقد اضطر بعض أهل المدن والقرى أن يخرجوا منها لاشتعال الحرب بين الإنجليز والعثمانيين، فلما انتهت الحرب وانتصر الإنجليز عاد الفلسطينيون إلى مدنهم وقراهم كما كانوا أول مرة.

فإذا كان الفلسطيني قد عاد إلى بلده لما انتصر الإنجليز الكفار الأشرار.. فهل من شك في أنه سيعود حين ينتصر العرب المسلمون الأبرار؟!!

ثم وقعت النكبة، وفوجئ الفلسطيني بأن الجيوش العربية قد مَكَّنت لإسرائيل وتواطأت معها لا على إنشائها فحسب، بل على إعطائها مساحة مزيدة من أرض فلسطين.. (لعلك عزيزي القارئ لا تعلم أن قرار التقسيم منح إسرائيل 55% من الأرض، ولكن الجيوش العربية منحت إسرائيل 78% من الأرض!!!!)

 الجيوش العربية ساعدت في إنشاء دولة يهودية

وفوق ذلك، فإن الجيوش العربية نفذت نصف قرار التقسيم (إنشاء دولة يهودية) ومنعت تنفيذ النصف الآخر (إنشاء دولة عربية).. فقد تواطأ نظاما مصر والأردن على ضم المتبقي من الأرض (غزة والضفة الغربية) إلى سلطتيْهما).

وفوق ذلك فإن الدول العربية منعت من أراد المقاومة والنضال من أن يفعل ذلك، وعملت السلطتان المصرية والأردنية على اعتقال المقاومين وتعذيبهم في غزة والضفة!!

تاريخ هو ظلمات بعضها فوق بعض كما ترى..

لكن الذي يهمنا الآن أن الفلسطيني قد فوجئ أنه لم يرجع إلى أرضه، وأن الخروج الذي ظنه أياما قد استحال سنينا، ولا أمل ولا أفق!!

لقد تعلم الفلسطيني الدرس القاسي.. وفهم بالنكبة كيف أن الأنظمة العربية أعداء غادرون.. حتى لو لم يستطع -لظروف السياسة- أن يصرح بذلك وأن يعلنه!

ومنذ ذلك الوقت لم يكرر الفلسطيني تجربة التهجير أبدا.. ولذلك ترى أن موجة النزوح في 1967 كانت ضئيلة وأقل بكثير جدا مما وقع في النكبة.. لقد عرف الفلسطيني أنه لو خرج من بيته وقريته فلن يعود إليها أبدا!

التصق الفلسطينيون بالأرض في غزة

وها أنت ترى بعينيك الآن كيف فعل الفلسطينيون في غزة، لقد التصقوا بالأرض أشد مما تلتصق بها الأحجار والأشجار.. فما أشبههم بقول مجنون ليلى:

لقد ثبتت في القلب منكم محبة.. كما ثبتت في الراحتين الأصابع!

أو بقول البوصيري يصف التصاق الصحابة بظهور الخيل:

كأنهم في ظهور الخيل نبتُ ربى.. من شِدّة الحزْم، لا من شَدَّة الحُزُم

والآن.. أظنك قد وصلت بنفسك إلى إجابة السؤال: لماذا تظل فكرة التهجير حية حتى بعد 77 سنة؟

الجواب كما هو واضح: لأن الأنظمة الخائنة كما هي.. لا زال النظام في مصر وفي الأردن جزءا من حراسة إسرائيل وحمايتها وخدمتها وتوفير الأدوات لها..

هذا هو ما يجعل المسألة ممكنة، ويجعل التفكير فيها واردا دائما.. لدى الصهاينة ولدى الأمريكان أيضا!

السيسي مستعد لقبول التهجير

ومثلما فكَّر بايدن في أول الحرب في منطق التهجير، ثم وقع الخلاف مع السيسي على الثمن لا على المبدأ، فقد جاء ترامب ليفكر في الأمر من جديد!!

وقد كانت سياسة السيسي أن يعمل على السبيليْن؛ فهو ينشئ مدينة جديدة في رفح، ويبني بوابة عند العريش ليجعل نفسه مستعد لقبول التهجير إن توصلنا إلى اتفاق في الثمن..

وهو في نفس الوقت يشدد الحراسة والبناء على السياج الفاصل لئلا يحاول أحد تنفيذ التهجير إجباريا قبل الاتفاق على الثمن..

ثم تعرقل هذا كله بصمود الغزيين أولا وبغطرسة نتنياهو ثانيا الذي تحول -وقد أغراه الدعم العربي والدولي- إلى التفكير في إعادة احتلال غزة وحكمها عسكريا من جديد!!

من كان صادقا في رفض التهجير وتصفية القضية فإن أول ما سيحرص عليه هو دعم المقاومة وإسنادها وفتح المعبر -وطرق التهريب كلها- لإمداد المقاومة بما تريد.. لا أن يشدد الحصار ويهدم الأنفاق ويأخذ من كل عابر يفر من الجحيم 5000 دولار!!

والخلاصة عزيزي القارئ كما تراها: كل قصة تهجير الفلسطينيين لم تبدأ ولم تستمر إلا لأن الأنظمة العربية قد صنعت هذه المأساة لأول مرة، وهي مستعدة لأن تعيد صناعتها مرة أخرى.. ولذلك لا تزال الفكرة قائمة في أذهان العدو!

ستنحل قضية فلسطين، يوم يوقن الفلسطينيون والعرب والمسلمون أن مفاتيحها في العواصم العربية.. إنك مهما طرقت على الباب بكل الوسائل فلن ينفتح لك إلا إذا وضعت المفتاح في مكانه المناسب، بغير ذلك لن ينفتح!!

محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights