محمد إلهامي يكتب: من فضائل طوفان الأقصى
إن أمتنا زاخرة بالحفاظ الذين يشبهون البخاري ومسلم، وبالعباد الذين يشبهون إبراهيم بن أدهم وبشر الحافي، وبالنجباء والأذكياء الذين يشبهون ابن حزم والغزالي.. ولكننا لن نعرفهم ولن نراهم!
وما ذلك إلا لسبب قوي، وهو أننا في زمن وفي حُكْمٍ لا يرحب بهؤلاء ولا يأبه لهم، بل ربما يعاديهم ويحاربهم أيضا..
نوع واحد فقط هو الذي تراه في كتب التاريخ ثم تراه في زماننا بكثرة: المطربون.. الأمة الآن حافلة بأمثال الموصلي وزرياب، وذلك أننا في حُكْمٍ يدعم ويرحب بالغناء والرقص والطرب، وتتكاثر فيه برامج “اكتشاف المواهب”.. المواهب من هذا النوع على وجه التحديد!
وها نحن الآن نرى أن أمتنا حافلة بالمجاهدين الذين يجددون سيرة أجدادنا الفاتحين والمقاومين، فها نحن نرى جهادا عظيما مريرا.. وقد أخرجت أمتنا في كل معاركها فئة من هؤلاء، لكن تشغيب التهم وتشويش الصورة بدعاوى واتهامات الجماعات الإرهابية والجهادية جعل كثيرين لا يبصرون مثل ذلك في قصص أفغانستان والعراق والشام وسائر الديار الإسلامية.
ثم ها نحن نرى وراء المجاهدين أمواجا من الصابرين الثابتين الفولاذيين الذين يجددون اتصال أمتنا بسلفها الصالح الميمون..
هذه كلها أنواعٌ نغفل عنها في العادة، ولا يوقظها فينا إلا أحداث من نوعية هذا الطوفان.
وهذا صاحبنا الشيخ، المشهور بـ«روح الروح»، انظر كيف وقفت الأمة بل وكثير من أبناء الأمم الأخرى، يتأملون صبره وثباته.. وما هو إلا واحد من موكب طويل وجليل..
وصاحبنا هذا تشبه قصته قصة ذكرها أحد شيوخ مشايخنا في مذكراته، حتى وقع التشابه في اللفظ «روح»!
يقول الشيخ، وهو يحكي هذه القصة التي جرت قبل مائة عام من الآن.. قال:
«كان من عادتنا أن نخرج في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم بالموكب بعد الحضرة، كل ليلة من أول ربيع الأول إلى الثاني عشر منه من منزل أحد الإخوان».
وتصادف أننا في أحد الليالي، كان الدور على أخينا الشيخ شلبي الرَجَّال، فذهبنا على العادة بعد العشاء فوجدنا البيت منيرا نظيفا مجهزا ووزع الشربات والقهوة والقرفة على مجرى العادة.
وخرجنا بالموكب ونحن ننشد القصائد المعتادة في سرور كامل وفرح تام.
وبعد العودة جلسنا مع الشيخ شلبي قليلا، وأردنا الانصراف فإذا هو يقول في ابتسامة رقيقة لطيفة: «إن شاء الله غدا تزورونني مبكرين لندفن روحية».
وروحية هذه وحيدته، وقد رُزِقها بعد إحدى عشرة سنة من زواجه تقريبا، وكان بها شغفاً مولعاً ما كان يفارقها حتى في عمله. وقد شبت وترعرعت، وأسماها “روحية” لأنها كانت تحتل من نفسه منزلة الروح.
فاستغربنا وسألناه: ومتى توفيت؟
فقال: اليوم قبيل المغرب.
فقلنا: ولماذا لم تخبرنا فنخرج من منزل آخر بالموكب؟
فقال: وما الذي حدث، لقد خفف عنا الحزن. وانقلب المأتم فرحا فهل تريدون نعمة من الله اكبر من هذه النعمة؟
وانقلب الحديث إلى درس تصوف يلقيه الشيخ شلبي، ويعلل وفاة كريمته بغيرة الله على قلبه، فإن الله يغار على قلوب عباده الصالحين أن تتعلق بغيره، أو تنصرف إلى سواه.
واستشهد بإبراهيم عليه السلام؛ وقد تعلق قلبه بإسماعيل فأمره الله أن يذبحه، ويعقوب عليه السلام؛ إذ تعلق قلبه بيوسف فأضاعه الله منه عدة سنوات. ولهذا يجب ألا يتعلق قلب العبد بغير الله تبارك وتعالى، وإلا كان كذابا في دعوى المحبة،
وساق قصة الفضيل بن عياض وقد أمسك بيد ابنته الصغرى فقبلها فقالت له: يا أبتاه أتحبني؟
فقال: نعم يا بنية.
فقالت والله ما كنت أظنك كذابا قبل اليوم.
فقال: وكيف ذلك؟ وكم كذبت؟
فقالت: لقد ظننت أنك بحالك هذه مع الله، لا تحب معه أحدا.
فبكى الرجل وقال: يا مولاي حتى الصغار قد اكتشفوا رياء عبدك الفضيل؟
وهكذا من الأحاديث التي كان الشيخ شلبي يحاول أن يسري بها عنا ويصرف ما لحقنا من ألم لمصابه، وخجل لعدم قضاء هذه الليلة عنده وانصرافنا وعدنا إليه في الصباح حيث دفنا روحية ولم نسمع صوت نائحة، ولم ترتفع حنجرة بكلمة نابية، ولم نر إلا مظاهر الصبر والتسليم لله العلي الكبير
انتهت القصة، وراويها هو الإمام الشهيد حسن البنا في مذكراته، «مذكرات الدعوة والداعية».
إن أمتنا مكنوزة بالخير، لكن الأنظمة تغمره وتطمره وتدفنه، ولا تستخرج من أمتنا إلا أسافلها وأراذلها وأهل الشرور منها.