محمد تهامي يكتب: إحنا هان لآخر نفس في حياتنا

في زحام العالم، وبين صخب المدن التي تبتلع أهلها، ثمة قلوب تنبض بإيقاع مختلف، قلوب لم تعرف الاغتراب لأنها ببساطة لم تغادر أرضها، لم تساوم، لم ترفع راية بيضاء، لم تعرف معنى الخضوع حتى لو كان الثمن حياة كاملة تعجّ بالوجع. هنا حيث التراب لا يزال دافئًا بأقدام الأجداد، حيث رائحة الخبز تمتزج برائحة الأرض بعد المطر، حيث الجدران ليست مجرد طوب وأسمنت، بل ذاكرة محفورة بصوت من عبروا هنا يومًا وقالوا بثقة لا تتزحزح: إحنا هان لآخر نفس في حياتنا.

ليست الكلمات وحدها ما يصنع اليقين، بل العيون التي لم تفقد بريقها رغم السنين الثقيلة، الأيدي التي رغم رعشتها لا تزال تحمل حجارتها بإصرار طفل يرفض أن يُنتَزع من حضن أمه، القلوب التي تنزف ولا تتوقف عن الخفقان، الأرواح التي تتشبث بظل شجرة، أو جدار مهترئ، أو باب خشبي قديم يعرف أسماء من مرّوا عبره ذات فجرٍ وتركوا خلفهم ضحكاتهم، أنفاسهم، وربما دماءهم. حين تقف على هذه الأرض، تدرك أن الصمود ليس خيارًا بل هوية، وأن الرحيل ليس خسارة بيت فقط، بل خسارة وجود، وأن هناك أماكن في العالم لا يسكنها الناس فقط، بل تسكن الناس أيضًا، منحتهم أسماءهم وهويتهم وكتبت مصائرهم كما تُكتب الأساطير.

على هذه الأرض أقدام حفاة تركت أثرها في الطرقات الضيقة، أصوات عجائز تحكي عن زمن كانت فيه البيوت مفتوحة كقلوب أهلها، أطفال يلهون في الأزقة ويرفعون أيديهم للسماء كأنهم يطلبون معجزة، شباب يحلمون بمستقبل أكثر اتساعًا من الجدران التي تحاصرهم، عيون تراقب الغروب بحنين من عرف أن الشمس ستعود، وأن الليل مهما طال، لابد أن ينكسر تحت وطأة النور. لم يكن البقاء يومًا مجرّد قرار، بل هو استماتة في وجه محوٍ ممنهج، هو معركة يخوضها الإنسان وحده ضد فكرة الفناء، هو إصرار على أن تظل الأسماء محفورة في الصخر، وعلى أن تبقى الحكايات حية في ذاكرة الأجيال، هو وعد لا يسقط بالتقادم، عهدٌ يُتوارث كما يُتوارث الدعاء.

ليس كل من عاش على الأرض عاش فيها حقًا، وليس كل من غادرها استطاع الرحيل عنها، هناك من ظلوا رغم أنهم طُردوا منها، وهناك من فقدوها رغم أنهم لا يزالون يتجولون في شوارعها، فمن لا يحملها في صدره، من لم يبتلعه الحنين كلما نطق اسمها، من لم يشعر أن روحه امتدادٌ لجذورها، فقد خسرها وإن لم يبتعد شبرًا واحدًا. البقاء ليس شكلًا، وليس مجرد وجود مادي، البقاء هو أن تظل الروح متجذرة كأشجار الزيتون، صلبة لا تهتز، ثابتة لا تنكسر، شامخة لا تساوم، فإن سقطت، سقطت واقفة، وإن رحلت، رحلت تاركة أثرًا لا يُمحى.

على هذه الأرض ما يستحق الحياة، لكن الحياة نفسها لا تُعاش إلا بثمن، ومن لا يدفعه، لن يكون له مكان في ذاكرة الأرض، ولكن ليس كل الناس يملكون شجاعة الحياة كما يجب أن تُعاش. البعض يمرون كزوار عابرين، يلتقطون الصور، يتركون آثار أقدامهم على الرمال، ثم يرحلون دون أن يتركوا أثرًا حقيقيًا، دون أن يحملوا المكان معهم حيثما ذهبوا. لكن هناك آخرين، يذوبون في المكان، يصبحون جزءًا منه، لا يمكن فصلهم عنه حتى لو حاول العالم بأسره أن يمحوهم، لأنهم لم يختاروا أن يكونوا هنا، بل خُلِقوا من ترابه، ومن ترابه سيعودون، وبين البداية والنهاية، سيظلون صامدين، قابضين على الحلم كأنه الحقيقة الوحيدة التي تستحق الإيمان بها.

ليس كل من سكن الأرض عاش فيها، وليس كل من غادرها غادرها حقًا، هناك من كانوا هنا ولم يكونوا، وهناك من رحلوا ولم يرحلوا أبدًا. هناك من باعوا كل شيء ولم يربحوا شيئًا، وهناك من لم يبيعوا شيئًا، لكنهم امتلكوا كل شيء، لأن الأرض لا تعطي نفسها إلا لمن يستحقها، لا تمنح أسرارها إلا لمن يحفظ عهدها، لا تكشف ملامحها إلا لمن أدرك أنها ليست مجرد حفنة تراب، بل هي أم تحتضن أبناءها حتى لو جفّت عروقها، وحتى لو ظنوا أنها لم تعد قادرة على الحياة.

في لحظات الاختبار، حين تشتد العتمة ويصبح الصمت أكثر قسوة من الكلام، يتمايز الناس. هناك من يفرّ، وهناك من يقف في وجه العاصفة حتى لو حملته الرياح بعيدًا. هناك من يُطفئ الشموع بيده، وهناك من يضيء مصباحًا صغيرًا، يؤمن أن الضوء مهما كان ضعيفًا، قادرٌ على دحر الظلام. هناك من يبيع صوته، وهناك من يصرخ حتى تنفجر حنجرته، فقط ليُثبت أنه لا يزال حيًا، فقط ليُعلن أن وجوده ليس قابلًا للمساومة.

ليست الأرض مجرد مساحة جغرافية، ولا مجرد وطن تُرسم حدوده على الخرائط، الأرض هي ذاكرة الروح، هي امتداد الأجداد في ملامح الأحفاد، هي الحكاية التي لا تنتهي، والعهد الذي لا يُكسر، هي قسمٌ يُردده المخلصون مع كل شهيق وزفير، مع كل طلقة تُطلق، مع كل يدٍ تُرفع للسماء، مع كل دمعة تسقط على وجنة طفلٍ لا يزال يتعلم كيف ينطق اسمها. هذه الأرض ليست للبيع، ليست للتفاوض، ليست للمساومة، هذه الأرض هي الحياة، ومن لا يدرك ذلك، لم يعرف يومًا معنى أن يكون للإنسان جذور، ولم يفهم أبدًا ما معنى أن تقول بكل ما فيك من يقين: إحنا هان لآخر نفس في حياتنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights