محمد تهامي يكتب: كيف غيرت المقاومة معادلات القوة في الصراع؟

في عالم تهيمن فيه القوى الكبرى على رسم الخرائط السياسية والعسكرية، يظل الفعل المقاوم واحدًا من أعقد التحديات التي تواجه نظريات الهيمنة التقليدية.

ليس فقط لأنه يتحدى ميزان القوة، بل لأنه يعيد تشكيل المعادلة بالكامل، محوّلاً الأضعف نظريًا إلى الطرف الممسك بزمام المبادرة.

في هذا السياق، تأتي تصريحات غيورا إيلاند، رئيس الأمن القومي الإسرائيلي السابق، التي تعكس حالة الانكسار أمام صمود المقاومة الفلسطينية.

عندما يعترف أحد كبار مهندسي الاستراتيجيات العسكرية بأن “حماس نجحت في فرض إرادتها”، وأن إسرائيل فشلت فشلًا ذريعا في حربها،

فإن الأمر يتجاوز مجرد تحليل عسكري إلى اعتراف استراتيجي بتغير قواعد اللعبة.

التاريخ خير شاهد 

التاريخ يعجّ بالأمثلة التي أثبتت أن الحروب لا تُحسم فقط بالقوة العسكرية المجردة، بل بالإرادة السياسية، والقدرة على الصمود، والتخطيط طويل الأمد.

حين فشلت الولايات المتحدة في فيتنام رغم تفوقها العسكري الساحق،

وحين أجبرت المقاومة الجزائرية فرنسا على الاعتراف بالهزيمة، كان العامل الحاسم دومًا هو ثبات المقاومة،

وليس فقط عدد الدبابات في الميدان.

واليوم، يعيد المشهد الفلسطيني إنتاج هذه المعادلة، ليكون قطاع غزة، المحاصر منذ سنوات، منصة لإعادة تعريف الصراع في الشرق الأوسط.

إن فشل إسرائيل في غزة، كما يصفه إيلاند، ليس مجرد إخفاق في تحقيق الأهداف العسكرية،

بل انهيار لمفاهيم الردع التقليدية التي طالما شكلت ركيزة السياسة الإسرائيلية.

فعندما تصبح المواجهة طويلة الأمد، وتفرض قواعد تفاوضية جديدة، وتجبر قوة الاحتلال على تقديم تنازلات جوهرية،

فإن ذلك لا يفسَّر إلا بكونه تحولًا بنيويًا في طبيعة الصراع.

ومن هنا، يمكن فهم سبب وصف إيلاند لهذا الإنجاز الفلسطيني بأنه لم يعد مجرد “حماس”، بل دولة غزة – في إشارة إلى مدى ما تم تحقيقه من فرض واقع جديد على الأرض.

في علم التسويق السياسي، يعتبر بناء الصورة الذهنية أحد أهم أدوات التأثير على الرأي العام.

لطالما حاولت إسرائيل أن تسوِّق صورتها كقوة لا تهزم، لكن التحولات الأخيرة تشير إلى أن هذه الصورة تتآكل بشكل متسارع.

تشكيل الوعي العالمي حول طبيعة هذا الصراع

الصور القادمة من غزة، ومشاهد الإجلاء العسكري الإسرائيلي، وتقارير الاستخبارات الغربية التي تحذر من فشل الأهداف المعلنة للحرب،

كلها عناصر تعيد تشكيل الوعي العالمي حول طبيعة هذا الصراع.

وهنا، يتجلى الدور المحوري للإعلام المقاوم، الذي لم يكتفِ برصد الأحداث، بل أسهم في نقل رواية مختلفة، تناقض السردية التي أرادت إسرائيل فرضها.

لا يمكن إنكار أن القوة العسكرية ما تزال عنصرًا حاسمًا في الصراعات، ولكن في عصر الإعلام الرقمي والحروب غير المتكافئة،

بات الانتصار يُقاس بالقدرة على التحكم في السردية، وصياغة الأحداث بحيث تتحول من مجرد وقائع عسكرية إلى مكاسب سياسية ومعنوية.

إن الاعتراف الإسرائيلي العلني بهذا الفشل لم يكن مجرد تقييم عابر، بل يعكس أزمة عميقة في المنظومة العسكرية والسياسية للدولة العبرية.

فحين تُفرض شروط جديدة على طاولة المفاوضات، ويصبح الاحتلال مجبرًا على الرضوخ للمعادلة التي فرضتها المقاومة، فهذا يعني أن اللعبة لم تعد كما كانت.

منذ بدايات القرن العشرين، اعتُبر الصراع في فلسطين اختبارًا حقيقيًا لنظريات السياسة الدولية.

الإرادة قادرة على قلب كل التوقعات

وبينما كان التصور السائد أن ميزان القوة التقليدي سيفرض حلاً نهائيًا لصالح الاحتلال،

جاءت العقود الأخيرة لتثبت أن الإرادة قادرة على قلب كل التوقعات.

فيتنام، الجزائر، جنوب إفريقيا، كلها نماذج تاريخية تؤكد أن الشعوب التي ترفض الهزيمة تفرض في النهاية شروطها، ولو بعد حين.

واليوم، يبدو أن غزة تكتب فصلاً جديدًا في هذا السياق، حيث لم تعد المسألة مجرد مواجهة مسلحة،

بل إعادة صياغة كاملة لمفهوم الردع في المنطقة.

الأسئلة الكبرى التي تطرحها تصريحات إيلاند تتجاوز حدود الصراع الفلسطيني الإسرائيلي،

وتمتد إلى معضلة الحروب غير المتكافئة في العالم الحديث.

إلى أي مدى يمكن للقوى الكبرى أن تستمر في استخدام أدوات القوة التقليدية في عالم أصبح الإعلام والسردية السياسية فيه بنفس أهمية الصواريخ والدبابات؟

هل سنشهد في العقود القادمة مزيدًا من التغيرات التي تجعل من مفهوم “النصر العسكري” أمرًا نسبيًا، خاضعًا للتأويل أكثر من كونه حقيقة مطلقة؟

ما هو واضح اليوم أن المقاومة الفلسطينية، رغم كل الظروف، استطاعت أن تفرض نفسها كرقم صعب،

ليس فقط في حسابات الشرق الأوسط،

بل في معادلات الجيوسياسة العالمية.

وبينما يواصل الاحتلال محاولاته لإعادة تشكيل المشهد وفق تصوراته، تبقى الحقيقة الأكثر إلحاحًا أن إرادة الشعوب،

مهما بدت محاصرة، تظل العنصر الأكثر تأثيرًا في رسم معالم المستقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights