الأحداث التي شهدناها على مدار خمسة عشر شهراً منذ بداية أحداث الأقصى، مروراً بتقليص دور إيران وحزب الله في المنطقة، وانتهاءً بسقوط نظام بشار الأسد وسيطرة هيئة تحرير الشام على الحكم في سوريا، لم تؤثر فقط على موازين القوى والتحالفات، بل قلبت الأفكار والثوابت الفكرية والسياسية رأساً على عقب.
شهدنا تقارباً سنياً شيعياً سياسياً مؤقتاً.
رأينا اصطفافاً عربياً غير مسبوق.
شهدنا دعماً شعبياً غربياً لقضية غزة.
لاحظنا خلافاً وانقساماً جماهيرياً كبيراً في الآراء حول الأحداث التي تمر بها المنطقة. هناك نسبة من التوافق ونسبة من الاختلاف تتزايد وتتناقص حسب التوجهات السياسية لكل طرف أو شخص، مما ينذر بشقاق اجتماعي قد يؤدي إلى خصومة كبيرة لولا وجود قاعدة (ما تفرّقه السياسة تجمعه العشرة والصداقة والعيش والملح)
هناك من يرى أن حق المقاومة يتطلب استخدام جميع الوسائل الممكنة لمواجهة العدو المحتل، مهما كانت التكلفة من الأرواح والخسائر المادية، ويعتبرون ذلك بطولة.
بينما يعتبره البعض الآخر عملاً غير عقلاني يضر بأهل غزة وبنيتها التحتية.
في حين يراه الكيان المحتل إرهاباً، وهذا ينطبق عليه قول القائل: “عندما ينتزع الراعي عنزاً من بين براثن ذئب، تعتبره العنز بطلاً، بينما الذئاب تعتبره ديكتاتوراً.”
التنافر المعرفي
«هو مصطلح نفسي يصف الانزعاج الذي يشعر به الفرد عندما لا تتوافق انتماءاته مع أفعاله، أو قد يشير إلى التوتر الناتج عن التمسك بانتماءين متعارضين في الوقت نفسه».
لقد أصبحنا مضطرين للتوفيق “سياسياً”، وليس فقهياً أو عقائدياً، بين معتقدات متناقضة مع وجود مبررات لذلك. وفي الوقت نفسه، نشعر أحياناً بعدم ارتياح نفسي، لكننا مجبرون على ذلك.
في خضم الأحداث، نجد أفراداً وجماعات من أهل السنة يؤيدون الشيعة إعلامياً وعاطفياً، مثل حزب الله والحوثيين وإيران، في ظاهرة لم تحدث من قبل، على الرغم من دعوات التقارب بين الشيعة والسنة التي أطلقها بعض العلماء من الجانبين.
لكن التقارب الذي حدث هو تقارب سياسي مؤقت يحمل في طياته صراعاً فكرياً بين ثوابت المعتقدات وبين أحداث عارضة ألجأتهم للتعاطف مع قوى الإسناد في غزة، بينما يعارضون ما حدث مع أهل سوريا. إنها حالة مزاجية غريبة من نوعها.
— لقد استطاع الطوفان أن يخلق اصطفافاً شعبياً عالمياً غربياً حول قضية واحدة هي غزة. وبالفعل، حدث توافق فكري إنساني يتعارض أساساً مع معتقدات الغرب الدينية والفكرية المرتبطة بنظرتهم لأي عمل عربي إسلامي مقاوم للاحتلال، حيث يعتبرونه إرهاباً.
— لقد استطاع الطوفان أن يخلق تناقضاً واضطراباً فكرياً ونفسياً يكمن. يحمل كل فرد في داخله تأييدًا لأحداث معينة ورفضًا لأوضاع أخرى؛ تأييدًا لقوى الإسناد في الحرب ورفضًا للمذهب الشيعي المخالف لأهل السنة والجماعة.
وقد تجلى ذلك في استحسان اجتماعي ورضا وإشباع للحاجات النفسية، مما حقق الهدف من السلوك الإنساني والمتمثل في تأييد قوى الإسناد التي أشبعت الرغبة في مقاومة العدو الغاشم بقوته المطلقة.
لقد أحدث هذا المد المتزايد حالة من المزيج الفكري لدى أولئك الذين لا تتوافق انتماءاتهم مع أفعالهم، خاصة في دعم بعض أصحاب المرجعيات والأيديولوجيات الدينية لقوى الشيعة المساندة لغزة. وكأن المرء يشعر بوجود ولاءين متناقضين مؤقتين داخل هؤلاء، وهذا يؤكد المقولة: «في السياسة، لا يوجد عدو دائم أو صديق دائم، بل هناك مصالح دائمة»، وتتمثل المصلحة هنا في دعم غزة في حربها.
من المعروف أن الأيديولوجيات تؤثر على سلوك البشر، وأن المبادئ والمعتقدات الأخلاقية تحدد رؤيتنا للصواب والخطأ وتؤثر على مواقفنا وأفعالنا تجاه الآخرين وموقفنا من القضايا الاجتماعية والسياسية. ومع ذلك، فقد ظهرت تناقضات من قبل أصحاب هذه الأيديولوجيات تجاه قوى الدعم من خلال التأييد السياسي.
سيستمر هذا التوتر المعرفي والتوفيق بين المعتقدات المتضاربة حتى انتهاء حرب غزة، وبعد ذلك ستعود الأفكار والأيديولوجيات والقناعات إلى وضعها الطبيعي، مما ينهي حالة الارتباك الفكري المؤقت التي أصابتنا.
✍️ بقلم/ محمد نجم
باحث ماجستير