السبت أبريل 27, 2024
مقالات

من وحي الأيام

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: أسبوعان في ظلال ضيافة الرحمان (4)

السبت: ٢١/ ٨/ ١٤٤٥ھ – ٣/٢/ ٢٠٢٤م

زيارة أبرز معالم مكة

إن كل ذرة من تراب مكة المكرمة تستحق أن تعظم وتحترم، وتُجعل كحلا للعين، وتوضع على الرأس..

إن أرض مكة -في الحقيقة- سماءٌ طهرًا وقداسة وعلوًا روحانيًا..  لأن الله شرفها بأول بيت وضع للناس: الكعبة المكرمة التي جعلها الله قياما للناس وأمنا..

ولأن الله جعلها مولد أفضل مولود على وجه الأرض منذ أن وجدت إلى أن تقوم الساعة..

من هنا سميت مكة: «أم القرى».. فلا شك أنها أم جميع القرى والمدن.. وسيدة الأمصار والأقطار ومُوَجّهَتُها.. وعاصمةُ العواصم.. وحاضرة الحواضر.. ومنطلق الإسلام الأول، الذي شع منه النور، الذي أضاءت به أرجاء المعمورة كلها.

فعلى أرض مكة نشأ سيد البشر.. نشأ يتيما محترما، محظيا بثقة الخاصة والعامة.. ملقبًا بـ: «الأمين».. إلى أن بعث رحمة للعالمين..

وعلى أرض مكة تربى أول وأفضل جيل بشري.. جيل قرآني.. ضحى في سبيل دينه بتضحيات لم ولن يقدم مثلها أي جيل!

والحقيقة أننا نقطف اليوم من ثمار تضحيات ذلك الجيل القرآني الفذ.. فلو لا تضحياته.. لما كان للإسلام هذا العز وهذا الامتداد والانتشار..

فسلام على ذلك الجيل القرآني الفذ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

والصلاة والسلام الأتمان على هادي البشرية سيدنا محمد، وعلى من تبعه إلى يوم الدين.

*** 

من هنا.. لمعالم مكة وآثارِها.. بل لجبالها ووديانِها وشعابِها.. حق علينا أن نتشرف بزيارتها.. ونقر عيوننا برؤيتها.. ونمشي فيها على رؤوسنا.. ونمشي إليها ولو حبوا..  لأنها تشرفت بأن وطئتها أقدام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.. وشهدت وشاهدت أحداث النبوة الجسام، وسار عليها أول جيل تربى في مهد الرسالة الأخيرة.

فكنا متشوقين منتظرين -بفارغ الصبر- لذلك اليوم الذي نتشرف فيه بزيارة أهم معالم مكة المكرمة، إلى أن أعلنوا أن يوم السبت ٢١ شعبان قد تحدد لزيارة المعالم.. ويكون التحرك الساعة الثامنة صباحا..

وجاءت الحافلة على الموعد المحدد.. وركبنا على الحافلة.. ومن حسن الحظ أن مرشد الزيارة كان عالما هنديا خبيرا بالمعالم، لأنه قضى سنوات متعلما في مكة (وأهل مكة أدرى بشعابها) وهو الأستاذ سحبان أحمد الذي يعيش في مكة منذ سنوات مع أبيه، فكان نعم المرشد ونعم المرافق.. وكان يلقي ضوءا كافيا على كل معلم نتوقف عنده أو نمر به.. ويشير إلى دلالات دينية وتاريخية بارزة لكل معلم من المعالم.

جبل ثور:

أول محطة كان عند جبل ثور، وهنا نزلنا جميعا من الحافلة، وذكّر الأخ المرشد بحادث الهجرة في كلمة بليغة مؤثرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أقام فيه ثلاثة أيام مع صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، مبينا صعوبةَ الصعود إلى غاره الذي كان في ذروة الجبل، والطريق إليه دونه شوك وقتاد..

كان الصعود – رغم ما كان فيه من التعب والمشقة – إلى الغار، يشير – في الحقيقة – إلى علو الإسلام وارتقائه إلى آفاق أسمى مستقبلًا.. ويحمل في حياته بشائر عظيمة لهذا الدين الممتحن وحامليه المعذبين، فالتضحيات لا تذهب سدى، والمحن تتمخض -دائما- عن المنح، والشدائد تسفر عن التيسيرات، والليل الغاسق ينبلج عن الصبح الصادق، وهذه سنة الله..

وهكذا كان.. كما لا يخفى على أحد..

الحقيقة أن هذا الغار يمثل النقطة الحاسمة الفاصلة بين المرحلتين.. مرحلة الضعف ومرحلة العز.. مرحلة الانكسار ومرحلة الانتصار.. مرحلة العسر ومرحلة اليسر.. مرحلة الضيق ومرحلة الفرج..

وإن مع العسر يسرا..

 فبعد الخروج من هذا الغار والوصولِ إلى المدينة المنورة كانت -مباشرة- بداية الانفراج والاتساع.. وازدياد القوة العددية والعسكرية للمسلمين يوما فيوما.. إلى أن أصبحت للإسلام شوكة وهيبة خضعت لها الدنيا..

فالغار هذا رغم ما كان يمثل مرحلة من المراحل التي تمر بها حياة الدعاة والمصلحين عادة.. ولكنه كان -في نفس الوقت- إيذانا بمرحلة القوة القادمة.. ولعل إلى ذلك يشير قوله تعالى {لا تحزن إن الله معنا}..

فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطمئن صاحبه أبا بكر الصديق ويهدئ روعته.. ويبشره بالمرحلة القادمة.. مرحلة الغلبة والفتح والانتصار..

مسجد نمرة:

نزلنا عنده أيضا، وهو مسجد ضخم، وواحد من أهم المعالم في مشعر عرفات، ومن على منبره تُلقى خطبةُ الحج، وفيه يصلي الحجاج صلاتي الظهر والعصر في يوم عرفة جمعا وقصرا اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وكان المسجد مغلقا، ويُفتح في الحج كما أخبرونا، وصلينا خارجه ركعتين..

وادي محسر:

أشار الأخ المرشد إلى هذا الوادي -ونحن في الحافلة-، ولأول مرة علمت بموقع هذا الوادي بالضبط، رغم أنني أكون قد مررت به مرات، وهو أحد أودية مكة، يقع الوادي بين مزدلفة ومنى، وسمي بـ: «وادي محسر» لأن أبرهة الحبشي حُسر فيه، ولذلك يسن للحاج الإسراع عند المرور به.

عين زبيدة:

وأشار كذلك الأخ مرشد الزيارة إلى موقع: «عين زبيدة» -ونحن جالسون في الحافلة- وهي معروفة في التاريخ، قرأنا عنها كثيرا، ولكن ما كنا نعرف مكان وجودها، ولأول مرة عرفنا موقعها..

وعين زبيدة هذه قناة مائية، قامت بإنشائها زبيدة، زوجة هارون الرشيد لسقيا سكان مكة والحجاج في المشاعر المقدسة، بعد ما رأت ما يلحق بالحجاج من مشقة في الحصول على المياه.

مقبرة المعلاة:

كذلك أشار الأخ المرشد -ونحن في الحافلة- إلى اليمين قائلا: هذه: «جنة المعلاة».. الواقعة في شمال المسجد الحرام، وهي مقبرة أهل مكة منذ العصر الجاهلي، وتحتضن قبور بني هاشم من أجداد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأعمامه، كما يوجد بها قبر زوجته خديجة بنت خويلد، وابنيه القاسم وعبد الله.

هذا. وقد دخلتها في أوائل هذا القرن الهجري، وكان صاحبي حدد لي -فيما أذكر- الجزء من المقبرة، الذي فيه قبور بني هاشم، وكذلك قبر زوجته خديجة.

الجمرات:

كذلك أشار الأخ المرشد -ونحن في الحافلة- إلى اليسار قائلا: هنا: «الجمرات».

ومعلوم أن رمي الجمرات جزء من الحج، حيث يرمي المسلمون الحصى على ثلاثة شواخص، تسمى: الجمرات في منى شرق مكة، وهو تجديد رمزي لسنة إبراهيم، حيث جاءه إبليس لعنة الله عليه ليصده عن ذبح سيدنا إسماعيل، فرماه بسبع حصوات في هذه الأماكن التي يقوم فيها الحجاج برمي الجمرات.

مقام إسماعيل:

كذلك أشار الأخ المرشد -ونحن في الحافلة- إلى اليسار.. قائلا: هذا مقام إسماعيل.. أي هذا هو المكان الذي صدّق فيه إبراهيم الرؤيا.. وتراءى للركاب -من بُعد- شيء يشبه المنارة العريضة -غير الطويلة- أو القبة، وهذا المقام في منى على يسار الذاهب إلى عرفات، وهو في شمال جمرة العقبة على نحو ٣٠٠ متر منها في سفح جبل ثبير، وذكر في بعض المصادر أن كان هنا مسجد يسمى: «مسجد الكبش» نسبة إلى الكبش، الذي فدى الله به نبيه إسماعيل لما أراد إبراهيم ذبحه تلبية لنداء الله وأمره، وبجوار هذا المسجد الصخرة التي ذبح عليها الكبش فداء لإسماعيل.

جبل الرحمة:

نزلنا قبله بنحو كلو متر، لأن السيارات والحافلات توقف عند نقطة معينة، ووصلنا إلى الجبل مشيا على الأقدام.

هذا جبل معروف، وقف عنده صلى الله عليه وسلم، يسمى جبل عرفة هذا بـ: «جبل الرحمة» بسبب الموقف العظيم الذي يقفه الحجاج المسلمون في ذلك اليوم (التاسع من ذي الحجة) الذي تنزل فيه الرحمات والبركات ومغفرة من الله.

ويتطلع الحجاج إلى الوقوف على جبل الرحمة، اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي وقف عليه، وألقى «خطبة الوداع» التاريخية، التي في الحقيقة تعريف موجز جامع، وتلخيص واف لمهام الرسالة، وأداءُ الشهادة، وتبليغُ الأمانة، ومسك الختام، وخطبة التمام، ووصايا هامة أخيرة للأمة، وإعلان: «تمام أمر النبوة».

هنا.. عند جبل الرحمة ألقى مرشد الزيارة الأستاذ سحبان أحمد كلمة بليغة مؤثرة في بيان فضل هذا المكان وأهميته، وختمها بدعاء دمعت له العيون وتأثرت به القلوب واهتزت له الجوانح، وتحركت المشاعر وجاشت العواطف، والأستاذ سحبان ليس خبيرا بمعالم مكة فقط، ولكنه صاحب قلب حي.. فلا يمر بهذه المعالم المكية المقدسة مرورًا عابرًا، مكتفيًا بإلقاء نظرة تاريخية، بل يمر بها مرور المتعظ المتأثر المستحضر لعظمتها وأهميتها وقدسيتها، لارتباطها بالنبوة والرسالة والذكريات الطاهرة والمعاني والدلالات الدينية الموحية، فكان كثيرا ما يثير فينا عواطف الحب والحنان والرقة والتأثر لدى إلقائه الضوء على أهمية المعالم التي تشرفنا بزيارتها.

غار حراء:

لضيق الوقت لم نتمكن من النزول من الحافلة لدى جبله، وإنما أشار المرشد الكريم إليه ونحن نمر بجواره، فاستحضرنا عظمة هذا الغار..

فهذا هو المكان الذي نزل فيه جبريل لأول مرة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشرفه فيه ربه بمنصب النبوة ومهمة الرسالة.

وهنا طلع الصبح الصادق للإنسانية من جديد..

ومن هنا.. انطلق النور الذي بدد الظلمات..

وهنا.. تلقت البشرية: «كلمة التوحيد» في صورتها الأخيرة الكاملة الشاملة، وآخرَ وأعظم وأكمل دستور سماوي، يحمل سعادتي الدنيا والآخرة،

وكان غار حراء مسك الختام لزياراتنا لأهم معالم مكة وآثارها.

ورجعنا إلى الفندق قبيل صلاة الظهر.. سعداء بما شاهدنا أو مررنا به من منابع النبوة وأمكنة الرسالة ومعالم الطهر والقداسة وآثار التضحية والفداء.. مما زادنا إيمانا على إيمان.. وشكرا على شكر.. وعرفانا بأهمية ديننا الحنيف، وتعلقا بمنابعه ومعالمه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

* * *

لقاء لم يقدر:

كان هذا اليوم (السبت: ٢١ شعبان) موعد اللقاء بيني وبين أخي الكريم الدكتور علي أحمد الندوي -أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز بجدة-، فكان أخبرني أنه يأتي إلى الحرم في هذا اليوم، وسنتلاقى فيه بإذن الله.. فكنت منتظرا لهذا اللقاء.. لأن الأخ الدكتور بمثابة الأخ الكبير لي، وتمتد علاقتي به لأكثر من أربعة عقود.. فكنت حريصا على مقابلته. ولكن لما تعين هذا اليوم موعدا لزيارة المعالم، حرجت.. وأرسلت إلى الأخ علي رسالة أخبره بذلك، فقال: إذن نتلاقى في لكناؤ إن شاء الله.. لأن عندي بعد اليوم دروسا في الجامعة..

لعل من القراء الكرام من لا يعرفون الدكتور علي أحمد الندوي، لأنه يعمل في صمت وخفاء..

إنه من خريجي ندوة العلماء في أواخر السبعينيات الميلادية، وهو ممن تعتز بهم الندوة والندويون.. ويعد من أفقه خريجي الندوة بل لعله أفقههم..

يكفي تقديرا لمكانته العلمية أنه مُنح جائزة الملك فيصل العالمية في مجال الدراسات العلمية.

من أهم كتبه: «القواعد الفقهية» الذي كان قدمه رسالة لنيل شهادة «الماجستير» من جامعة أم القرى بمكة المكرمة.

هذا الكتاب كان يضعه والدي الشيخ محمد برهان السنبهلي رحمه الله في مكتبته ضمن أهم الكتب التي كان يراجعها من حين لآخر..

أذكر أن والدي رحمه الله كان شارك في مؤتمر للبنك الإسلامي بجدة سنة ١٩٧٩م، فلما رجع من السفر، قال: لقد وجدت الطالب علي أحمد أبرز من لقيته -من الإخوة الدارسين في الجامعة الإسلامية- علما وعملا وخلقا.

الجدير بالذكر أن الدكتور علي أحمد الندوي من أبرز تلامذة والدي، الذي درّس في ندوة العلماء أمهات الكتب في علوم الدين والشريعة نحو نصف قرن.

(لكناؤ، الهند.. الأحد: ١٣ رمضان الفضيل ١٤٤٥ھ – ٢٤مارس ٢٠٢٤م).

Please follow and like us:
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب