محمد نعمان الدين الندوي يكتب: العالم الجِهبِذ.. الدكتور محمد حميد الله

شخصيات أعجبتني: (٢٩)

محمد نعمان الدين الندوي.. مدير معهد الدراسات العلمية، ندوة العلماء، لكناؤ الهند

العالم الجِهبِذ.. الدكتور محمد حميد الله.. من القمم العلمية الشامخة شموخا، إذا رفع أحد رأسه ناظرًا إليه، سقطت قلنسوته… (١).

شخصية فذة بمعنى الكلمة..

عاش -طول حياته- راهبًا في صومعة العلم، ومعتكفًا في محراب الدعوة.. يستقي من علوم الكتاب والسنة، وينشر العلم ويؤلف ويحقق ويحاضر ويدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.

عاش عيشة عابر سبيل، جاعلًا نصب حياته قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها». رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

يعد – بحق وجدارة – مفخرة الهند، ومن أعظم أعلام التاريخ الإسلامي وعباقرته.

قام – بمفرده – بالإنجازات العلمية، التي لا تكاد تقوم بها عدة مجامع مزودة بكافة الوسائل الممكنة.

ألف في القرآن الكريم والحديث الشريف والفقه والتاريخ والسيرة والأدب ومقارنة الأديان والقانون الدولي.

 ألف نحو ١٧٠ كتابًا خلال ستين سنة، كما كتب نحو ألف مقال في الموضوعات العلمية والدينية والتاريخية.

نُشِر أولُ مقالٍ له في جريدة أسبوعية بلاهور (تحت عنوان: «مدارس كي سير» أي: «سياحة في المدارس») سنة 1924م ۔

قام بتحقيق ١٢ مخطوطة نادرة، اكتشفها وعثر عليها في مختلف المكتبات من عدة بلدان ۔

وهو أول من قام بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية.

كان من الطراز الأول من العلماء والأتقياء والزهاد، وأكاد أقول إنني لا أعرف له نظيرًا – في بساطته وتقشفه وزهده في الدنيا – ممن أعرفه من العلماء المعاصرين..

لصفاته النادرة العجيبة، يقال عنه إنه: كان تخلف من عصره.. العصر الأول المبارك.. عصر الصلاح والتقى، الذي كانت تهب فيه رياح الإيمان والخير والسعادة والبركة.. فمن سعادة أهل هذا الزمان، وفضل الله عليهم أنهم شهدوا رجل العصر الأول ونهلوا من علمه، وتشرفوا بصحبته.

كان دودة العلم.. عاش للعلم وبه وفيه..

فكان العلمُ شعارهَ ودثارَه، وأنيسه وأليفه، ومصبحه وممساه..

لفنائه في العلم وعكوفه عليه، وتَفَرُّغِه له، اختار حياة العزوبة، وآثر عليها الاشتغالَ بالعلم والدعوة والبحث والتحقيق.

ظل طول حياته هندي الجنسية، رغم أن أكثر من بلد عرض عليه التجنس بجنسيته، ولكن وفاءً لوطنه، وحبّا إياه.. رفض العروض، وظل معتزًا بجنسيته الأصيلة، منتميًا إلى وطنه مدى الحياة.

أما زهده وتقشفه فلا يمكن تصور أكثر وأشد منه.. زهد خيالي وتقشف قياسي..

لم تكن عنده أكثر من أربع بدلات، يسكن في شقة متواضعة، ولم يكن له خادم، فكان يقوم بجميع أموره بنفسه، ويكتفي بالبقول والخضروات، ويحترز من اللحم للشبهة، ويطبخ طعامه بنفسه، ويكنس بيته، ويغسل ثيابه بيده.

ومن زهده في تسهيلات الحياة الجديدة، أنه لم يكن عنده تلفون، ولا راديو فضلًا عن تليفاز، تلك الأجهزة التي تعد اليوم من ضرورات الحياة، ولا يكاد يستغني عنها أحد.

كانت تعرض عليه الجوائز، ولكنه رفض قبولَ معظمِها، وما قَبِل منها، تبرع بها لصالح مؤسسة علمية أو خيرية، حتى لا يقل أجر أعماله عند الله..

لم يك يقتصر على البحث والتحقيق وتأليف الكتب فقط، بل ظل مشتغلًا بالدعوة في مواطن الحضارة الغربية ومعاقلها إلى آخر عمره، يزور المساجد والمراكز والجامعات داعيًا وناصحًا، ويناظر القسس، ويلقي المحاضرات في الكنائس، ويزيل الشبهات حول الإسلام، ويثبت صدقه، وكونَه حقًّا لا مرية فيه، وقد أسلم على يده آلاف من المسيحيين وغيرهم.

كان متواضعًا جم الأدب، بعيدًا عن الصيت وحب الظهور كل البعد، محترمًا للعلم، موقرًا للعلماء، ذهب مرة إلى دار المصنفين بأعظم كراه (الهند) لمقابلة العلامة سيد سليمان الندوي رحمه الله، فلما وصل إلى غرفة الشيخ سيد، خلع نعليه، فقالوا له: لا حاجة إلى خلع النعل، فأجاب: كيف أدخل بالنعل الغرفة، التي أُلِّف فيها كتاب: «سيرة النبي» صلى الله عليه وسلم.

كان له قدح معلى في الحديث الشريف وعلومه، روى ثقة – ممن نعرفه من أفاضل العلماء – أنه سمع الشيخ أبا الحسن الندوي رحمه الله يقول -ذات مرة في بعض مجالسه- أن على كبار مشايخ الحديث أن يتتلمذوا للشيخ الدكتور حميد الله، وكفى بها شهادة!

من كراماته -كما ذكر الأستاذ محمد ذاكر خان، الرياض- أنه في أواخر أيام حياته، حينما كان عمره ٨٨ سنة، دخل في غيبوبة، وأصيب بشلل تام، وطلبت الجهات المشرفة على علاجه من أسرته الإذن بسحب أجهزة الإنعاش ليموت بهدوء، ولكنهم رفضوا طلبهم، ودهش الأطباء وكادوا لا يصدقون حينما فوجئوا بأن الشيخ حميد أفاق في اليوم الرابع، وتناول إفطاره، وكانت الأيام أيام رمضان، فقد واصل صومه قائلًا: إنه لم يفته صوم يوم واحد من صيام رمضان، منذ أن كان في التاسعة من عمره.

كان الدكتور حميد الله يرفض – بشدة – أن تلتقط له صورة إلا لضرورة، وإن كان يملك جهاز التصوير، (camera) يصور به المشاهد والمعالم الأثرية.

الحقيقة كان الدكتور حميد الله رحمه الله نادرة من نوادر الزمان في الفضل والعلم والتقوى والزهد والصلاح.

مما يعاب علينا – نحن المسلمين – أننا لا نقدر العظماء والنوابغ في حياتهم، فلا نوفيهم حقهم من الإنصاف والاعتراف بفضلهم ونبوغهم وإنجازاتهم وصنائعهم، ولوكان مثل حميد الله في أمة غير أمتنا، لرفعه أهلها على رؤوسهم، ونصبوا له التماثيل بعد وفاته..

أما نحن فلم نعترف للدكتور النابغة بفضله حق الاعتراف في حياته، ولم نوفه حقه بعد وفاته أيضًا.. كان المفروض أن تُنشأ الجامعات ومراكز البحث والتحقيق باسمه في البلدان العربية والإسلامية، (وفي بلده بصفة خاصة، وفي وطنه بحيدر آباد بصفة أخص) وفاء وتحية له، وتخليدًا لذكراه، وتعريفًا بما خلّف من التراث العلمي العظيم، الذي قلما خلفه أحد غيره في هذا العمر.

أضواء على أبرز محطات

حياة الدكتور محمد حميد الله

نحاول -فيما يلي- أن نشير إلى أهم ما يتعلق بحياته من الأحداث والإنجازات:

– هو محمد حميد الله بن أبو محمد خليل الله بن محمد صبغة الله بن محمد غوث.

– ولادته: ١٦ محرم ١٣٢٦= ١٧ فبراير – شباط – ١٩٠٨م، بحيدر آباد، الهند.

– وفاته: ١٧ ديسمبر ٢٠٠٢م بأمريكا.

– تلقى العلوم الإسلامية في الجامعة النظامية بحيدر آباد، ودرس اللغة الإنجليزية بجهوده الذاتية.

– نال شهادة: «المرحلة العالية» (B.A) من الجامعة العثمانية ١٩٢٨، ثم حصل -من نفس الجامعة- على شهادة: «الماجستير» (M. A) ١٩٣٠م، وفي نفس السنة نال شهادة (L. L. B).

– ثم سافر إلى ألمانيا، وواصل دراساته العليا هناك، ونال شهادة الدكتوراة، وكان موضوع أطروحته: «الحياد في القانون الدولي الإسلامي».

– ثم توجه إلى فرنسا، حيث حصل على شهادة الدكتوراة تحت عنوان: «الدبلوماسية الإسلامية في عصر النبوة والخلافة الراشدة”.

– وتشرف بزيارة بلاد الحرمين الشريفين، حيث أسمع القرآن الكريم كاملًا، مقرئ المدينة المنورة الشيخ حسن الشاعر رحمه الله، وحصل على الشهادة منه، وكانت هذه الشهادة -في القرآن الكريم- أحب شهاداته إليه، وأعظمها أهمية عنده..

– ثم رجع إلى وطنه: حيدر آباد، حيث عمل مدرسًا بالجامعة العثمانية من ١٩٣٥م إلى ١٩٤٨م.

– سادت الفوضى والبلابل حيدر آباد بعد تحرر البلاد من الاستعمار، فتركها، وأقام بباريس، وعمل بالمعهد القومي للأبحاث العلمية من ١٩٥٤ إلى ١٨٧٨م.

– لما اشتد مرضه ١٩٩٤م، انتقل إلى أمريكا، حيث توفي ٢٠٠٢ م.

من أبرز أساتذته:

– الشيخ مناظر أحسن الكيلاني

– الأستاذ عبد الحق

– الأستاذ عبد القدير الصديقي

– المفتي عبد اللطيف

– الشيخ صبغة الله

إتقانه لعدة لغات:

كان متقنًا لـ ” ٢٢ ” لغة، درس الأخيرة منها وهو في الثانية والثمانين من عمره.

كانت له قدرة فائقة في التأليف في سبع لغات: [العربية] و: [الألمانية] و: [الأردية] و: [الفرنسية] و: [التركية] و: [الفارسية] و: [الإنجليزية].

– نظرًا لبحوثه القيمة وإسهاماته المتميزة في الدراسات الإسلامية، رشح اسمه لجائزة الملك فيصل ١٩٩٤م، ولكنه اعتذر عن قبولها.

– أسلم على يديه أكثر من ثلاثين ألف فرنسي.

من أهم مؤلفاته العربية:

-١ مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة.

-٢ كتاب النبات للدينوري، قاموس أبجدي من حرف السين إلى حرف الياء من كتب المتأخرين.

-٣ صحيفة همام بن منبه مع مقدمة في تاريخ تدوين الحديث.

-٤ أنساب الأشراف للبلاذري.

-٥ المعتمد في أصول الفقه.

من أبرز مؤلفاته الإنجليزية

-1 the battlefields of the prophet Muhammad.

-2 the first written constitution in the world.

-3 the 1400th Anniversary of the completion of islam.

-4 introduction to islam.

هذا الكتاب كتب – أصلًا – بالفرنسية، وترجم إلى ٢٣ لغة.

أما بعد. فهذه السطور القليلة المتواضعة لا تغطي جوانب حياة صاحبنا الخصبة، ولا تمثلها تمثيلًا شاملًا، ولا يمكن أن تسع ترجمتَه هذه الحلقة الروتينية المحدودة السطور، ولكنها -على كل حال- إطلالة سريعة على أهم نواحي حياة الدكتور حميد الله، وتعريف موجز بأبرز صفاته وإنجازاته، ومن أراد التوسع، فليراجع المؤلفات التي تتناول حياة الدكتور في شمول واستيعاب.

 * * *

(١) مثل أردي، يراد به: علو مكانة إنسان، وجلالة قدره، وعظمة شأنه بشكل غير عادي.

(السبت: ١٦ من شعبان ١٤٤٦ھ = ١٥ من فبراير -شباط- ٢٠٢٥ م).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights