مقالات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: طوارق الإنسان من دلائل من فضله

على مائدة العلم والأدب:

حدثان الدهر ليس بدعًا من الأمر.. بل هو شيء يكاد لازمًا.. لا ينفلت منه أحد..

والامتحان لا غَناء عنه.. وضربة لازب..

فإذا وقع المؤمن في الامتحان، وأصيب بما يكره.. فلا يضق بذلك صدره، ولا يستشعر الحرج منه، ولا يُصَب بالإحباط واليأس..

بل عليه أن يواجه المكاره والمصائب بالصبر والاحتساب، وسعة الصدر والاستغفار..

فالدنيا عبارة عن الصفو والكدر.. والفرح والترح.. فهي -الدنيا- ليست مسرة محضة.. أو حزنًا صرفًا.. بل هي ممزوجة بالهموم، مشوبة بالأكدار..

{لقد خلقنا الإنسان في كبد}، ولقد وصف الواصفون العقلاء وصفات حكيمة في مواجهة الهموم والشجون،

فهذا العم الحكيم المتنبي يوصي بـ: “اللامبالاة”، وعدم الاهتمام بالمصائب والمحن، فيقول:

لا تلق دهرك إلا غير مكترث

ما دام يصحب فيه روحك البدن

والبعض يدعو المرء إلى التبسم، لدى ابتلائه بالأزمات والمشكلات:

قال: الليالي جعلتني علقما

قلتُ: ابتسم ولئن جرعت العلقما

فالثبات عند نزول الحوادث، والانقياد والتسليم لدى مداهمة المقدور، والاعتراف بالواقع، والصبر على الأذى، والرضا بما حصل يُذهب الحزن، وسبب للأجر، وشيمة المؤمن..، بينما الجزع والفزع، والصراخ والعويل لا ينفع ولا يزيل المصيبة.. قال الشاعر:

ولما رأيت الشيب لاح بعارضي

ومفرق رأسي قلت للشيب مرحبا

ولو خفت أني إن كففت تحيتي

تنكَّبَ عني رمتُ أن يتنكبا

ولكن إذا ما حلّ كُرهٌ فسامحتْ

به النفسُ يوًمًا كان للكُره أذهبا

لا تحزن من المصيبة

فعلى المؤمن أن لا يحزن من مصيبة، فقد تكون منحة، ولا يقنط من بلية فقد تكون عطية.. ورب ضارة نافعة.. {عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}.

بل ينبغي له أن يتلقّى الخطوب الكوالح وهو ضاحك، ويصارع النكبات الدهم وهو باسم.

تنكّر لي خصمي ولم يدر أنني

أعِزُّ وأحداث الزمان تهون

فبات يُريني الخصمُ كيف عُتُوُّه

وبِتُّ أريهِ الصبرَ كيف يكون

ويجعل نصب عينيه:

تسلَّ عن الهموم فليس شيءٌ

يقيم فما همومك بالمقيمة

لعل الله ينظر بعد هذا

إليك بنظرة منه رحيمة

على أن طوارق الإنسان من دلائل فضله، ومحنه من شواهد نبله، كما قال الشاعر:

محن الفتى يخبرن عن فضل الفتى

كالنار مخبرة بفضل العنبر

ثم المصائب والمحن تصقل المواهب، وتجلو القدرات وتكشفها، قال بُزُر جَمْهَر: «الشدائد قبل المواهب تشبه الجوع قبل الطعام، يحسُّ به موقعه، ويلذ معه تناوله».

إن الشدائد تمخض عن صلابة عود واستقامة عمود، كما قال الشاعر:

نوائب الدهر أدبتني

وإنما يوعظ الأديب

لم يمض بؤس ولا نعيم

إلا ولي فيهما نصيب

الابتلاء من سنن الأنبياء

وفوق ذلك كله.. الابتلاء من سنن الأنبياء.. فما من نبي ولا رسول إلا وقد ابتلي وأصيب، فقد ورد في الحديث المشهور:

«سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه، ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس، ما عليه خطيئة»

[صحيح الترغيب].

ورغم ما وُعِد به من الأجر والثواب للمبتلين، لا ينبغي للإنسان أن يتمنى الابتلاء، بل عليه أن يظل يطلب -دائمًا- العفو والعافية،

والأمن والسلامة في المال والأهل والولد، والصحة في البدن، فإذا أصابه -ولا قدر الله- البلاء، فليواجهه بالصبر والاحتساب،

والثبات والرضا، فمن رضي فله الرضا، ومن صبر، فالله مع الصابرين.

(الاثنين: ١٩ من رجب ١٤٤٦ھ = ٢٠ من يناير ٢٠٢٥ م).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights