نظرة على محتويات الحلقة:
أيها القراء الكرام!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد. فإليكم حلقةً جديدةً من سلسلة: “في ظلال فكر إقبال”، وأبياتُ هذه الحلقة من نفس القصيدة التي اخترنا منها أبيات الحلقة الماضية، وتسمى: “طلوع الإسلام”، المقتبسة من ديوان إقبال الشهير: “بانگ درا” (صلصلة الجرس).
حينما كتب إقبال هذه القصيدة، كان مسلمو العالم عامة، ومسلمو الهند خاصة، تجري فيهم موجة من اليقظة، وكانوا ينفضون عن أنفسهم آثار النوم الطويل، ويستعدون للتلافي والعودة إلى مجد الماضي وعزته، الأمر الذي كان منسجمًا مع آمال إقبال وهمومه، ومتناغمّا مع طموحاته وتمنياته للأمة، فهذه القصيدة تعبر عن مثل هذه الانطباعات والخواطر للشاعر العظيم، بأسلوب يمتلئ قوة وحماسًا وأملًا.. كما هو المعهود من شاعرنا الموهوب صاحب القصيدة.
بدأ إقبال القصيدة متفائلًا مستبشرًا بأن المستقبل للأمة، فقال:
كما أن ضوء النجوم يتضاءل في اللحظات الأخيرة من الليل، ويشير ذلك إلى قرب الفجر وإسفار الصبح.. كذلك بدأ يجري دم الحياة في العروق الميتة من الشرق، وإن استعمار الغرب للحكومات الإسلامية أحدث في مسلمي العالم رد فعل، جعلهم يرغبون – مرة أخرى – في الإسلام ويلجؤون إليه، لأن تلاطم الأمواج العاتية يُحَوّل قطرة من الماء درة يتيمة لا تُقَوّم.
إقبال كان على ثقة بأن الرجال من الأمة سيمنحون -مرة أخرى- من عظمة الترك، وفكر الهنود، ومن حضارة العرب وثقافتهم، ما يجعلهم يستعيدون مكانتهم التي كانوا حظوا بها في الماضي.
وإنها من مسؤوليات الشعراء والعلماء والمثقفين أن يوقظوا الأمة بصوت عالٍ ممزوج بشيء من المرارة والشدة.
هذه خلاصة الأبيات التي سنقدمها في السطور التالية، فتعالوا نحاول ترجمة الأبيات وشرحها:
البيت:
دلیلِ صبحِ روشن ہے ستاروں کی تنک تابی
افق سے آفتاب ابھرا، گیا دور گراں خوابی
الترجمة:
إن لمعان النجوم الضئيل الخافت دليل على أن الصبح المشرق سينبلج.
لقد ذرت الشمس من الأفق، وانقضت فترة النوم العميق.
الشرح:
كما أن النجوم يخفت ضوؤها ويتضاءل عند السحر، ويكون ذلك دليلًا بينًا وإشارة واضحة إلى أن الصبح سيسفر..
وللصبح سلطان على الليل قاهر
يرحله عنا بغير جنود
كذلك فيما نرى من بشائر الصحوة ومظاهرها في العالم الإسلامي، دليل على ظهور حياة جديدة، وعلى أن عصرًا جديدًا -من العظمة والسيادة والريادة- قادم بإذن الله، وعلى أن فترة غفوة المسلمين الطويلة تكاد تنتهي.
محمد نعمان الدين الندوي يكتب: في ظلال فكر إقبال: (٥) مكانة المسلم |
البيت:
عُروُقِ مُردۂ مشرق میں خُونِ زندگی دوڑا
سمجھ سکتے نہیں اس راز کو سینا و فارابی
الترجمة:
لقد طفق يجري دم الحياة في العروق الميتة من الشرق.
ولكن لا يستطيع أن يدرك هذا السر ابنُ سينا والفارابي.
الشرح:
لقد بدأت الحياة تدب إلى العالم الإسلامي الذي كان قد مات روحيًّا وفكريًّا وسياسيًّا.
ولكن هذه النهضة والصحوة لا علاقة لها بالعقل، وإنما تتصل بالقلب والروح والإيمان، والعاطفة والوجدان، والفلسفة لا تدرك كنه هذه الصحوة، إنها -الصحوة- مأثرة: “عاطفة الإيمان” وثمرة من ثمراتها، لا من نتائج المنطق والفلسفة.
أي الذين لا تتعدى نظرتهم البحثَ في الأسباب والعلل.. ولا تتجاوز مداركهُم الظاهرَ المرئي من الأشياء.. إن أمثال هؤلاء لا يستطيعون أن يقدروا مظاهر التطور والتغيير التي تشهدها أمم الشرق تقديرًا صحيحًا، إنهم لعاجزون عن تقييم معاني الصحوة التي تموج في عقول الأمم وقلوبها.
البيت:
مسلماں کو مسلماں کر دیا طوفانِ مغرب نے
تلاطم ہائے دریا ہی سے ہے گوہر کی سیرابی
الترجمة
جعل – حوّل – الطوفانُ الغربيُ المسلمَ مسلمًا بمعنى الكلمة.
لأن نشأة الدرر واللآلي ونماءها لا تكون إلا بتلاطم أمواج البحر.
الشرح:
إن الغزو الحضاري الغربي، والمادية الغربية، والاستبداد الغربي، والاستعمار السياسي.. كل أولئك هز المسلمين هزًّا، وجعلهم يتراجعون إلى أصولهم ومبادئهم وهويتهم الحقيقية.
فظُلمُ العدوّ وكبتُه قد يصير سببًا لليقظة، ويؤدي إلى مراجعة الحساب، والنجاةِ من حياة الغفلة والتكاسل.
يقول إقبال: إن تعامل الغرب اللامعقول أحدث لدى المسلمين حمية صادقة لدينهم، وشعورًا بالغًا بعظمة هويتهم، فالمسلمون الذين كانوا يغطون في النوم العميق منذ مدة طويلة، انتبهوا من نومهم، وانتعشوا، وتحمسوا للحفاظ على كيانهم وهويتهم، ونشأ عندهم شعور بأنهم إذا لم يجدّوا من أجل عقيدتهم وهويتهم ذابوا وغابوا، ولم يبق لهم عين ولا أثر، فكأن غزو الغرب واستعماره واستبداده أعاد المسلمين إلى جذورهم، وجعلهم مسلمين صادقين حقيقيين {عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}.
البيت:
عطا مومن کو پھر درگاہِ حق سے ہونے والا ہے
شکوہِ ترکمانی، ذہنِ ہندی، نُطقِ اعرابی
الترجمة:
سيُمنحُ المؤمنُ – مرة أخرى – من لدن الرب جل وعلا العظمةَ التركية والفطانةَ الهندية والبيانَ العربي.
الشرح:
يزف إقبال بشرى عظيمة إلى المسلمين.. ويقول لهم: لا داعي لليأس والقنوط، فهذا الوضع المزري سينتهي..، وانحطاط المسلمين سينقضي، فهم عائدون إلى المجد والسؤدد، ومتربعون على عرش القيادة والريادة مرة أخرى إن شاء الله تعالى.
نعم. سيعود المسلمون إلى جميع ما كانوا عليه في الماضي.. يعودون بمكانتهم العظيمة، وسموهم الفكري، وتميزهم العلمي ونبوغهم الأدبي إلى منصة العالم: {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله}.
وهذه الصفات الثلاث تمثل علامات بارزة على عظمة المسلمين التاريخية.
البيت:
أثر کچھ خواب کا غُنچوں میں باقی ہے تو اے بُلبل!
“نوا را تلخ تر می زن چو ذوقِ نغمہ کم یابی”
الترجمة:
إذا كان هناك لا يزال يوجد من آثار النوم على البراعم (الأمة) فأيها العندليب!
إذا قلت الرغبة في الاستماع إلى النغمات والألحان، فاجعل صوتك أكثر مرارة.
الشرح:
يقول الشاعر: الأمة لم تستيقظ يقظة كاملة بعد، فإذا كان اللين والرفق لا يؤثران في إحداث اليقظة، فطعم صوتك بشيء من الخشونة والغلظة، والمرارة والعاطفة، حتى تتأثر القلوب وتنخشع، فتستيقظ الأمة، وتزول آثار النوم كليًّا.
البيت:
تڑپ صحنِ چمن میں، آشیاں میں، شاخساروں میں
جُدا پارے سے ہو سکتی نہیں تقدیرِ سیمابی.
الترجمة:
اضطرب (تحرك دائمًا) وتململ في ساحة الحديقة، وفي الأعشاش وعلى الأغصان.
لأن من كانت طبيعته كالزئبق لا يسكن (لا تقف حركته)..
الشرح:
كأن إقبالًا يخاطب نفسه قائلًا: يا إقبال! أنت من الأمة الإسلامية كالبلبل – العندليب – من الحديقة، الذي يتوجع ويتململ إذا رآها تخرب وتُوحِش.. فتململ وتألم سواء كنت في ساحة الحديقة أو فناء الواحة أو في الأعشاش أو على أغصان الأشجار، لِتحْدُثَ اليقظةُ في الحديقة.. أنت زئبق، وطبيعته أنه – دائمًا – يترجرج، ولا تغيير في الطبيعة، ولا تُسلَب ولا تُزال.. (ما بالطبيعة لا يتخلف).
عليك أن لا تغغل عن مهمة الإيقاظ.. إيقاظِ أمتك، واجعلها نصب عينيك، وقم بها في كل ناد وفي كل مناسبة وفي كل مكان.. وبقدر مستطاع.. وكلما سنحت لك الفرصة.. بلّغ رسالة الإيقاظ.. ولا تتوان عنها.. ولا تقصر فيها أبدًا….
والحقيقة أن هذا الخطاب – خطاب إقبال نفسه – لم يكن خطابًا شاعرًا محضًا.. بل قرنه إقبال وصدقه بالعمل.. فظل يوقظ أمته طوال حياته، ويحيي فيها الشعور بمكانتها وعظمة رسالتها، ولم يزل يتململ لها تململ السليم إلى آخر نفس من أنفاس حياته، ولم يتململ وحده فحسب..، بل علّم الكثير من أبناء الأمة التململ والاضطراب، والتوجع والتألم من أجل الأمة. وهو الذي كان قال ذات مرة -وهو في حالة التململ والتألم-: “ألا.. عاشق الرسول صلى الله عليه وسلم لن يذل في الدنيا”.
فالخلاصة أن طبيعة المسلم ومزاجه، أنه -دائمًا- في الحركة والنشاط، والجد المتواصل والعمل الدائم.
إنه لا يعرف السكون والقعود، بل يستمر -دائمًا- في الحركة والتحرك والعمل، وهذه هي طبيعة المسلم وفطرته، وهذا هو المفروض المطلوب من المسلم.. فالعمل المتصل لازمة المسلم وخاصته، وهويته وميزته.
البيت:
وہ چشمِ پاک بیں کیوں زینتِ برگستواں دیکھے
نظر آتی ہے جسکو مرد غازی کی جگر تابی
الترجمة:
العين الطاهرة العفيفة التي ترى الحقائق، وتبصر شجاعة المجاهد وتضحيته ومغامراته.
لماذا ترى وتعير انتباهًا لما على الفرس من العدة والعتاد والسرج والدرع وما إلى ذلك؟
الشرح:
إقبال ينعى على أصحاب النظرة الظاهرية، الذين لا يهمهم إلا الحسن المرئي والتمتع بالجمال الظاهري.
يقول: صاحب النظرة المدركة للحقائق، لا يلتفت إلى جمال ظاهر الشيء وحسنه، بل يحاول أن يرى ما وراءه من رصيد الجد والتضحية والبطولة والعاطفة، وهذا هو الجمال الحقيقي والحسن الأصيل، الذي له وزنه وقيمته عند أصحاب النظرة العميقة المتبصرة في المعاني، والغائرة في الحقائق.
البيت:
ضمیر لالہ میں روشن چراغ آرزو کردے
چمن کے ذرّے ذرّے کو شہیدِ جستجو کر دے.
الترجمة:
أشعل سراج الأمل في قلب كل مسلم يا رب!
واجعل كل ذرة من ذرات الحديقة (كل فرد من أفراد الملة) متفانيًا في معرفة الحقيقة.
الشرح:
كان إقبال يحلم ويتمنى داعيًا إلى الله أن ينشأ -في المسلمين- الأمل والتوق إلى المعالي، والرغبة الجادة في العمل، وتنصرف الأمة كلها إلى البحث عن الحق، عائدة إلى اليقظة، ومتطلعة إلى الرقي والازدهار.
وبعد. خلاصة ما مضى أن وقت غفلة المسلمين ونومتهم الطويلة قد أدبر وانقضى، وتجري فيهم موجة لليقظة من جديد، ومعارضة الغرب وعداوته أيقظتهم ونبهتهم، وأن اللهُ قد أراد بهم خيرًا، فسيعطيهم عطاء خاصًّا من لدنه سبحانه..
كان إقبال يتمنى بل يحرص على أن يكون كل فرد من أفراد الأمة شعلة من النشاط والجد والعمل، ومثلًا أعلى للتضحية والبطولة والفداء، لكي تطلع شمس الإسلام من جديد في سماء الأمة، وترسل أشعتها الوهاجة – مرة أخرى – إلى أرجاء المعمورة كلها.
وما ذلك على الله بعزيز… وهو على كل حال قدير.
(السبت: ٣ من ذي الحجة ١٤٤٦ ھ = ٣١ من مايو -أيار- ٢٠٢٥م.