محمد نعمان الدين الندوي يكتب: يا له من ضيف.. لو عرفنا قدره!

من وحي الأيام:

محمد نعمان الدين الندوي.. مدير معهد الدراسات العلمية، ندوة العلماء، لكناؤ الهند

إي والله.. إنه أكرَمُ ضيفٍ.. وأَحبُّ ضيف إلى الإنسان..

ومن الناس من يتضايق بقدوم الضيف، ويستثقل نزوله، فلا يستقبله إلا بالوجه الكالح والصدر الضيق، ولا يرحب به إلا على مضض.. ويتمنى لو يرجع بسرعة.. ولا يطيل مكوثه..

أما ضيفنا هذا.. فيتمنى الكثيرون لو تتكرر زيارته.. بل لو يبقى ضيفًا عندهم مدى الدهر..

لأن هذا الضيف لا يكلف مضيفه قليلاً ولا كثيرًا.. ولا يرزؤه شيئًا ولا قطميرًا.. بل -على العكس- يأتي ليعطيه، ويملأ بيته خيرًا وبركة وسعادة..

وهذا الضيف لا ينزل بيت كل أحد.. فلنزوله شرط عظيم.. وهو شرط: “الإيمان”، فمن وُجد فيه هذا الشرط، نزل بيته..

نعم. لا ينزل هذا الضيف إلا بيوت المؤمنين الصادقين.. ولا يخص بجوائزه وأفضاله إلا المتقين الصالحين، الصابرين المحتسبين..

إنه ليس ضيفًا عاديّا..

إنه الضيف الرباني.. الضيف المبارك الكريم بل الأكرم… الذي يشرفنا شهرًا كاملًا كل سنة..

والقراء – طبعًا – يكونون قد فطنوا لهذا: «الضيف الكريم» الذي ذكرنا بعض خصائصه..

يسمى هذا الضيف الجليل: «رمضان».. رمضان القرآن.. رمضان الصيام والقيام.. رمضان البر والمؤاساة.. والخير والعبادات..

ذلك الشهر الذي يفتح الله فيه أبواب الرحمة والمغفرة على مصاريعها، وتسلسل فيه الشياطين، ويعود المسلم الصائم -المُراعي حقوق الصيام وآدابه- نقيّا كقطرة المزن، طاهرًا كفطرة الوليد.

نعم. تفتح في هذا الشهر الفضيل -خاصة- أبوابُ السماء، لتستقبل الدموع والدعوات والطاعات والأعمال الصالحات.

فطوبى لمن اغتنم هذا الشهر، واجتهد فيه بالعبادة والتلاوة، وحاول – قدر المستطاع – أن يتنسم تلك النفحات المباركة التي تهب فيه..

الحقيقة لو عرف المسلمون أهمية هذا الشهر وعرفوا قدره حق المعرفة، لتمنوا أن تكون السنة كلها رمضان..

فمن هنا.. سمعنا وقرأنا أن كثيرًا من الصالحين كانوا يقضون النصف الأول من السنة متحسرين متأسفين على انقضاء رمضان، والنصف الباقي منتظرين مستعدين متشوقين لقدومه..

ألا.. إن رمضان فرصة سانحة ذهبية لاستمطار رحمة الله، وجلب رضاه..

فبشرى لأولئك الذين يسارعون في هذا الشهر المبارك بالإقبال على الطاعات والخيرات.. بالصوم نهارًا، والقيام ليلًا.. وبأنواع أخرى من العبادات -حسب المستطاع- في معظم أجزائهما..

ولنحرص فيه على إدراك: «ليلة القد» التي هي خير من ألف شهر..

والحقيقة هذه الليلة: «ليلة العمر»، فمن ظفر بها، فقد فاز فوزًا عظيمًا..

هذا. والبعض -إذا لم نقل: الكثير- عادوا يتعاملون مع رمضان تعاملًا لا يتفق وروح الإسلام ومقصد الصيام.. ولا ينسجم معه أيما انسجام..

فهذا البعض يعتبرون رمضان شهر الطعام والشراب، أو الاستراحة والاستجمام، والرتع في الملذات، والسهرات في مجالس الأغاني والأنغام..

لا حول ولا قوة إلا بالله..

لقد قلبوا الأمر رأسًا على عقب..

يا عباد الله! إن شهر رمضان شهر تدريب النفس على الامتناع من الكثير مما يجوز في غير رمضان، فكيف يسوغ لنا فيه ما استُنكِر في غيره، أو كيف نستحل فيه ما حرم في غيره..

في كثير مما يسمى: ” البلدان الإسلامية” يُعِدُّون لرمضان مسلسلات المجون والخلاعة، وأفلام الحب والغرام، ليقدموها في ليالي رمضان ترويحًا عن الذين تعبوا في نهاره بالصوم.. {كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا}.

 الأمة الإسلامية تمر هذه الأيام بأدق الظروف وأخطرها من تاريخها..

فكأنها في حالة الطوارئ.. بل في ساحة الحرب.. وفي ساحة الحرب لا يفكر أحد في اللهو فضلًا عن ممارسته..

إن هذه الظروف تتطلب منا الصوم عن كثير من اللهو المباح في غير رمضان فضلًا عن رمضان..

إنها تقتضي منا آخر درجة من التيقظ والحذر، والجِدّ الصارم والوعي التام بخطورة الأوضاع التي نعيشها..

 صراحة.. وبدون أي مجاملة.. هذا الوقت ليس وقت المباريات والترويحات والحفلات وإقامة المآدب الفاخرة..

إنه وقت الإنابة إلى الله والتوبة إليه توبة نصوحًا..

فالعدو بالمرصاد، ويتربص بنا الدوائر، ويخطط ليس للقضاء على ديننا فحسب، بل على كياننا، ومحوِ وجودنا كأمة..

كفانا لهوًا وعبثًا.. فلقد لهونا كثيرًا.. وولغنا في حمأة الشهوات، وغرقنا في الترويحات والملذات من أخماص أقدامنا إلى قمة رؤوسنا.. وسابَقْنا في ذلك.. فسبَقْنا الكثيرَ من الأمم والشعوب..

وهذا ليس مبعث فخر ولا اعتزاز لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل مدعاةُ عارٍ وشنار لها..

فهذا التنافس في تخدير الشعوب بألوان من اللهو واللعب باسم الترويح والانفتاح ومواكبة العصر لا يزيدنا إلا عارًا على عار، ووهنًا على وهن.. ويجرنا إلى مزيد من الشقاء والخذلان والهوان.

وإن أيّ أمة -فضلًا عن أمة محمد- لا تزدهر ولا تتقدم بالمسابقة في الملاهي والملذات..

فلنصم -موقتًا- عن اللهو الحلال فضلًا عن الحرام..

وليكن رمضانُ القادم رمضانَ الحاسم.. رمضان الفارق بين ماضينا ومستقبلنا.. رمضان َالجد والجهاد ضد النفس.. رمضانَ العودة الكاملة إلى الله.. رمضانَ استرداد سابق المجد وماضي العز.. العز تحت الشمس وفوق الأرض.. العز الذي يذل له الجبابرة والقياصرة..

العز الذي لا يعطيه الله إلا من يتقيه ويطيعه وينصره {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.

ومعلوم أن شهر رمضان شهر الغزوات والفتوحات والانتصارات الرائعة. وعلى رأسها غزوة: «بدر الكبرى»، التي يدين لها ما تلاها من الانتصارات.. «اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، فلا تعبد في الأرض أبدًا».

ليكن شهر رمضان القادم امتدادًا لتاريخنا الرائع المجيد.. رمضان الفتح والانتصار والغلبة والازدهار، رمضان التجديد لحياتنا، وبنائها على المنهج الإسلامي المطلوب المنشود، الذي بدونه لا يكتمل الإيمان، ولا تتحقق السعادة، ولا تعود الكرامة إلى الأمة.

فليكن رمضان القادم بدايةً لحياة جديدة.. حياة الشكيمة والتضحية، حياة الجِدّ والجَلَد، والصبر والمصابرة.. والتقليل من -إذا لم نقل: الإمساك التام عن- الكماليات وأسباب الترفيه ووسائل الترويح.

فهل نحن فاعلون…؟

(الخميس: ٢١ من شعبان ١٤٤٦ھ = ٢٠ من فبراير – شباط – ٢٠٢٥م).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights