مضر أبو الهيجاء يكتب: المسلم بين مفهومي الوحدة الواجبة والدولة الوطنية الحديثة
إن أخطر فكرة تجسدت كخطوة عملية على أيدي الغرب الصليبي في واقع الأمة الإسلامية العريقة، وآلت إلى تفكيك الأمة وإتلافها هي فكرة الدولة الوطنية الحديثة .
إن المطلوب منا كدعاة موجهين أو علماء أو سياسيين يؤمنون بمرجعية الإسلام وأحكام الدين، ويؤمنون بواجب السعي لإقامة وتمكين الدين، أن ننقد أصل وجود الدول الوطنية وملابسات تكوينها ونشأتها على أيدي غربية معادية للأمة والدين، بعد أن نالت من دماء شعوبنا وأتلفت بلادنا وسرقت ثرواتنا.
إن المطلوب منا كمؤمنين برسالة الدعوة وحاملي لأمانة الدين، أن نشير لشرور تكوين الدول الوطنية ومآلات وجودها في واقع الأمة في كل منحى من مناحي حياتها، لاسيما والأمة منذ قرن تعاني المر وتكتوى بنيران الدولة الوطنية وأجهزتها الأمنية، واحترابها الذي أهلك شعوب المنطقة وأوجد بينهم نيرانا لا تنطفئ، والمغرب والجزائر وغيرها شاهد على ذلك .
إن من كوارث الخطاب الإسلامي السياسي المعاصر أنه يعلي من قيمة الدولة الوطنية، بل ويبلور مفهومها كمرجعية للأخوة والوحدة منطلقا منها ومرتكزا عليها دون الإشارة بنفس العمق والمرجعية والمنطلق لقيم التوحيد والهوية الثقافية الإسلامية الجامعة.
ومن نافلة القول أن هذا الخطاب غير صحيح ولا قويم، وأقل ما يوصف بأنه مضطرب ومرتبك وخلط حقا بباطل.
إن التصور الواقعي والتعاطي مع الدولة الوطنية يجب أن يتوقف عند حدود التصور الإداري الذي ينظم حياة وشؤون المواطنين والمقيمين على تلك الأرض، وتنظيم مصالحهم المشتركة.
كما ينبغي التفريق بين قيمة الأرض والانتماء القطري لها، والحنين والشوق المرتبط بها، ووجوب الدفاع عنها، وبين المفهوم السياسي العقدي للدولة الوطنية التي رسمت عقائد شعوبها في جانبي الولاء والبراء.
إن حجم وشكل الخذلان الذي تعيشه القضايا الإسلامية التي تمس شعوب الأمة هي في أحد جوانبها انعكاس لسطوة الدولة الوطنية الحديثة، والتي باتت تحدد مساحة وحجم التعاطف والتفاعل وحتى وجوب وانتفاء الولاء.
ولعل من أبرز وأوضح الآثار والمآلات المتوقعة لمفهوم وتكوين الدولة الوطنية الحديثة هو التطبيع الآثم الذي بدأته جمهورية مصر العربية مع الكيان الصهيوني المحتل للأقصى والمتسبب بتهجير شعب عربي والقاتل لأطفال المسلمين.
كما يجري نفس الحكم على الخطوة الآثمة التي تسعى لها المملكة العربية السعودية للتطبيع مع عدو لشعوب المنطقة، بعد أن أتلف ودمر وأحرق عدة دول وشعوب عربية!
ولعل دهشة عموم المسلمين من سقطة ولقاء الرئيس أردوغان -المحسوب على الإسلاميين بحسب خلفيته ونشأته- مع رئيس الكيان الإسرائيلي القاتل نتنياهو، هو نتيجة غياب تفكيك مفهوم الدولة الوطنية الحديثة في الوعي الجمعي الإسلامي، والتي فعلت فعلها الآثم في عموم شعوب الأمة وخصوص الحركات الإسلامية المعاصرة، ونموذج سعد الدين العثماني الذي وقع بيده وثيقة التطبيع مع الإسرائيليين ليست عنا ببعيد!
كما أن أشكال التحالفات السياسية المعاصرة التي تشكلت وتعاظمت بين حركات إسلامية كحركتي حماس والجهاد ومحور ملالي إيران -الذي يمتلك مشروعا كامل الأركان لمسخ الدين وإتلاف بلاد العرب والمسلمين هو انعكاس حقيقي للوثة مرجعية الدولة الوطنية والولاء السياسي لها وتمكنها من التصور والمكون والخطاب الإسلامي المعاصر، والذي فارق بدوره المقولات الإسلامية ومناهج روادها- رحمهم الله وجعلهم في عليين وجزاهم خيرا عن المسلمين- الذين أبدعوها فور انهيار الخلافة الإسلامية الجامعة للأمة.
إنه من المستحيل أن يتحقق ما تتمناه الأمة من النهضة الإسلامية وعودة وحدتها في وجود نقيضها، ألا وهو هذه الدولة الوطنية الحديثة والتي حلت كاللعنة على أمة الإسلام وواقعهم حتى باتت عليل.
وكما فشلت نهضة الأمة بسبب وجود الدول الوطنية الحديثة التي شكلها المستعمر، فقد تاهت جهود المسلمين في تحقيق الوحدة المطلوبة.
لقد كثر الحديث عن الوحدة وضرورتها دون تحققها، وذلك نتيجة لعنصر موضوعي هو الدولة الوطنية، وعنصر ذاتي هو ارتباك في تصورها السليم!
إن الوحدة التي ينادي بها بعض السياسيين الإسلاميين تحتاج لتوقف وإعادة نظر ، لاسيما وهي لا تنبني على أصول سليمة تضمن صلابتها وانتصارها على ظروف الواقع وتبدلاته السياسية وخطط مشاريع الخصوم.
وعندما ننظر في كتاب الله العظيم فإننا نقرأ قوله تعالى في سورة آل عمران (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، كما نقرأ قوله تعالى في سورة سماها سبحانه وتعالى الصف : (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)، وفي الآيتين معنى وإشارة عظيمة للوحدة التي يحبها الله، والتي تشكل شرطا لتحقيق رضا الله أولا وكشرط لتحقيق النصر ثانيا، ألا وهي أن تكون في سبيل الله، وأن يكون كنهها حبل الله، أي كتابه وشرعه ودينه.
لقد سبقت تلك الإشارة في الآيتين مفهوم الوحدة العظيم لأنها شرط أساس في تحقيقه وقطف ثماره، فلا وحدة معتبرة إذا لم تكن في سبيل الله وعلى نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عصمة من التفرق إلا إذا كان بحبل الله ومنهج التوحيد ودينه النقي الخالص .
وقد يلتبس هذا على البعض ويرى فيه اشكالا في الخطاب الوطني الواسع المرتبط بمساحة ودولة ما، لاسيما إذا كانت متعددة المذاهب والطوائف!
والحقيقة أننا يجب أن نفرق بين مفهوم الوحدة الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى به والذي يعتبر شرطا لتمكين الدين وعز ونصرة المسلمين والدفاع عن قضاياهم واتخاذ المواقف اللازمة بناء على مصابهم وتغول الأعداء عليهم، وبين العقد الاجتماعي الذي يعبر عنه بالوحدة الوطنية في مساحة جغرافية في سياق التصور الإداري لها، وهو المثال الذي يمكن أن نجده في وثيقة المدينة وبنود الاتفاق التي تخللها قوله صلى الله عليه وسلم (يهود بني النضير أمة مع المسلمين)، ولم يقل عليه صلوات الله وسلامه أمة من المؤمنين، فالأولى هي التي تصلح للخطاب والعقد الوطني، والثانية هي الواجبة بين المسلمين اليوم.
وهنا يبرز الدور الواجب على العلماء ورثة الأنبياء في تنوير الطريق للمسلمين لاسيما الدعاة والمجاهدين، وتعريتهم ونقدهم لمفهوم الدولة الوطنية الحديثة التي أقامها المستعمر والغازي لبلاد العرب والمسلمين وتبيين ما جرته من ويلات على شعوب المنطقة، وكذلك تنقية الخطاب الغثائي الذي يمتهنه كثير من السياسيين لاسيما الإسلاميين حول الوحدة، وتبيان ماهية وكنه ومفهوم الوحدة من خلال التصور القرآني الفريد.
وأقول لمن قال من الإخوة والباحثين الكرام إن الفساد والإصلاح يبتدئ من السلطة وينتهي عندها، وأن مدار الإفساد والإصلاح يدور حول السلطة!
إن هذا الكلام مصيب في الإشارة لمركزية الدولة ووجوب إصلاح السلطة كشرط لبناء الكيان الإسلامي المنشود، ولكن الإصلاح والإفساد مرتبط أصالة بصوابية وفاعلية دور العلماء العاملين، الذين ترتبط الدولة نفسها بدورهم ومواقفهم لتستقيم ويدوم صلاحها.
ختاما أقول إن الخطاب الإسلامي المعاصر يجب أن يراجع ويعاد تنقيته ليكون أعلى وأقدر على تفتيت الصور المغلوطة في عقول العوام والعاملين، وبناء الصور والمفاهيم والتصورات السليمة والمنسجمة مع رسالة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كما تجب تلك المراجعة لكي تتسم الأعمال الإسلامية بالرشد والحكمة في التعامل السياسي مع الدول الوطنية المفروضة علينا في واقع الحال.
ما قلت من حق فمن الله وما أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان وأستغفر الله.
مضر أبو الهيجاء فلسطين-جنين 24/9/2023