الأمة الثقافية

معلّقة “قِفَا نَبْكِ”.. للشاعر الجاهلي “امرؤ القيس”

من روائع الشعر العربي

معلقة امرئ القيس

معلقة امرؤ القيس أو الملك الضليل (وهي أشهر المعلقات، وتُصنّف بأنّها من أجود ما قيل في الشعر العربي، وهي منظومة على البحر الطويل، وقد اختلف الرواة في عدد أبياتها، فروى بعضهم أنها من 77 بيتًا وآخرون قالوا أنها: 81 بيتًا وآخرون قالوا أنها: 92 بيتًا .

——————–

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُول فَحَوْملِ

فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لمْ يَعْفُ رَسْمُها

لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ

تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ فِي عَرَصَاتِهَا

وَقِيْعَانِهَا كَأنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ

كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا

لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ

وُقُوْفاً بِهَا صَحْبِي عَلَّي مَطِيَّهُمُ

يَقُوْلُوْنَ:لاَ تَهْلِكْ أَسَىً وَتَجَمَّلِ

وإِنَّ شِفائِي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ

فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ؟

كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا

وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ

إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا

نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ

فَفَاضَتْ دُمُوْعُ العَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً

عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِي مِحْمَلِي

ألاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ

وَلاَ سِيَّمَا يَوْمٌ بِدَارَةِ جُلْجُلِ

ويَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَي مَطِيَّتِي

فَيَا عَجَباً مِنْ كورها المُتَحَمَّلِ

فَظَلَّ العَذَارَى يَرْتَمِيْنَ بِلَحْمِهَا

وشَحْمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ

ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ

فَقَالَتْ:لَكَ الوَيْلاَتُ!،إنَّكَ مُرْجِلِي

تَقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعاً:

عَقَرْتَ بَعِيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ

فَقُلْتُ لَهَا:سِيْرِي وأَرْخِي زِمَامَه

ولاَ تُبْعدِيْنِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّلِ

فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ

فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ

إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ

بِشَقٍّ،وتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَوَّلِ

ويَوْماً عَلَى ظَهْرِ الكَثِيْبِ تَعَذَّرَتْ

عَلَيَّ، وَآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ

أفاطِمَ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ

وإِنْ كُنْتِ قَدْ أزمعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي

وَإنْ تكُ قد ساءتكِ مني خَليقَةٌ

فسُلّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ

أغَرَّكِ مِنِّي أنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي

وأنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَلِ؟

وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إلاَّ لِتَضْرِبِي

بِسَهْمَيْكِ فِي أعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ

وبَيْضَةِ خِدْرٍ لاَ يُرَامُ خِبَاؤُهَا

تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ

تَجَاوَزْتُ أحْرَاساً إِلَيْهَا وَمَعْشَراً

عَلَّي حِرَاصاً لَوْ يُسِرُّوْنَ مَقْتَلِي

إِذَا مَا الثُّرَيَّا فِي السَّمَاءِ تَعَرَّضَتْ

تَعَرُّضَ أَثْنَاءَ الوِشَاحِ المُفَصَّلِ

فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثِيَابَهَا

لَدَى السِّتْرِ إلاَّ لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ

فَقَالتْ:يَمِيْنَ اللهِ، مَا لَكَ حِيْلَةٌ،

وَمَا إِنْ أَرَى عَنْكَ الغَوَايَةَ تَنْجَلِي

خَرَجْتُ بِهَا تمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا

عَلَى أَثَرَيْنا ذيل مِرْطٍ مُرَحَّلِ

فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى

بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ

هَصَرْتُ بِفَوْدَيْ رَأْسِهَا فَتَمَايَلَتْ

عَليَّ هَضِيْمَ الكَشْحِ رَيَّا المُخَلْخَلِ

إذا التفتت نحوي تضوّع ريحُها

نسيمَ الصَّبا جاءت بريا القرنفُلِ

مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ

تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ

كَبِكْرِ المُقَانَاةِ البَيَاضَ بِصُفْرَةٍ

غَذَاهَا نَمِيْرُ المَاءِ غَيْرُ مُحَلَّلِ

تَصُدُّ وتُبْدِي عَنْ أسِيْلٍ وَتَتَّقي

بِنَاظِرَةٍ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِلِ

وجِيْدٍ كَجِيْدِ الرِّيمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ

إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ بِمُعَطَّلِ

وفَرْعٍ يَزِيْنُ المَتْنَ أسْوَدَ فَاحِمٍ

أثِيْثٍ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ

غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إلَى العُلا

تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنَّى وَمُرْسَلِ

وكَشْحٍ لَطِيفٍ كَالجَدِيْلِ مُخَصَّرٍ

وسَاقٍ كَأُنْبُوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّلِ

وَتُضْحِي فَتِيْتُ المِسْكِ فَوْقَ فِراشِهَا

نَؤُومُ الضَّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ

وتَعْطُو بِرَخْصٍ غَيْرَ شَشْنٍ كَأَنَّهُ

أَسَارِيْعُ ظَبْيٍ أَوْ مَسَاويْكُ إِسْحِلِ

تُضِيءُ الظَّلامَ بِالعِشَاءِ كَأَنَّهَا

مَنَارَةُ مُمْسَى رَاهِبٍ مُتَبَتِّلِ

إِلَى مِثْلِهَا يَرْنُو الحَلِيْمُ صَبَابَةً

إِذَا مَا اسْبَكَرَّتْ بَيْنَ دِرْعٍ ومِجْوَلِ

تَسَلَّتْ عَمَايَاتُ الرِّجَالِ عَنْ الصِّبَا

ولَيْسَ فُؤَادِي عَنْ هَوَاكِ بِمُنْسَلِ

ألاَّ رُبَّ خَصْمٍ فِيْكِ أَلْوَى رَدَدْتُهُ

نَصِيْحٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَلِ

ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُوْلَهُ

عَلَيَّ بِأَنْوَاعِ الهُمُوْمِ لِيَبْتَلِي

فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ

وأَرْدَفَ أَعْجَازاً وَنَاءَ بِكَلْكَلِ

ألاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيْلُ ألاَ انْجَلِي

بِصُبْحٍ، وَمَا الإصْبَاحُ منِكَ بِأَمْثَلِ

فَيَا لَكَ مَنْ لَيْلٍ كَأنَّ نُجُومَهُ

بكل مُغار الفتل شُدّت بيذبل

كَأَنَّ الثُرَيّا عُلِّقَت في مَصامِها

بِأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْدَل ِ

وَقَدْ أغْتَدِي والطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا

بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأَوَابِدِ هَيْكَلِ

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً

كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

كَمَيْتٍ يَزِلُّ اللَّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ

كَمَا زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بِالمُتَنَزَّلِ

مِسِحٍّ إِذَا مَا السَّابِحَاتُ عَلَى الوَنى

أَثَرْنَ الغُبَارَ بِالكَدِيْدِ المَرَكَّلِ

عَلَى الذبل جَيَّاشٍ كأنَّ اهْتِزَامَهُ

إِذَا جَاشَ فِيْهِ حَمْيُهُ غَلْيُ مِرْجَلِ

يزل الغُلاَمُ الخِفَّ عَنْ صَهَوَاتِهِ

وَيُلْوِي بِأَثْوَابِ العَنِيْفِ المُثَقَّلِ

دَرِيْرٍ كَخُذْرُوفِ الوَلِيْدِ أمَرَّهُ

تقلب كَفَّيْهِ بِخَيْطٍ مُوَصَّلِ

لَهُ أيْطَلا ظَبْيٍ، وَسَاقَا نَعَامَةٍ

وإِرْخَاءُ سَرْحَانٍ، وَتَقْرِيْبُ تَتْفُلِ

كَأَنَّ عَلَى الكتفين مِنْهُ إِذَا انْتَحَى

مَدَاكُ عَرُوسٍ أَوْ صَلايَةَ حَنْظَلِ

وبَاتَ عَلَيْهِ سَرْجُهُ ولِجَامُهُ

وَبَاتَ بِعَيْنِي قَائِماً غَيْرَ مُرْسَلِ

فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَهُ

عَذَارَى دَوَارٍ فِي مُلاءٍ مُذيَل

فَأَدْبَرْنَ كَالجِزْعِ المُفَصَّلِ بَيْنَهُ

بِجِيْدٍ مُعَمٍّ فِي العَشِيْرَةِ مُخْوِلِ

فَأَلْحَقَنَا بِالهَادِيَاتِ ودُوْنَهُ

جَوَاحِرُهَا فِي صَرَّةٍ لَمْ تُزَيَّلِ

فَعَادَى عِدَاءً بَيْنَ ثَوْرٍ ونَعْجَةٍ

دِرَاكاً، وَلَمْ يَنْضَحْ بِمَاءٍ فَيُغْسَلِ

وَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِن بَيْنِ مُنْضِجٍ

صَفِيفَ شِوَاءٍ أَوْ قَدِيْرٍ مُعَجَّلِ

ورُحْنَا وَراحَ الطَّرْفُ ينفض رأسه

مَتَى تَرَقَّ العَيْنُ فِيْهِ تَسَفَّلِ

كَأَنَّ دِمَاءَ الهَادِيَاتِ بِنَحْرِهِ

عُصَارَةُ حِنَّاءٍ بِشَيْبٍ مُرَجَّلِ

وأنت إِذَا اسْتَدْبَرْتَهُ سَدَّ فَرْجَهُ

بِضَافٍ فُوَيْقَ الأَرْضِ لَيْسَ بِأَعْزَلِ

أحارِ تَرَى بَرْقاً أُرِيْكَ وَمِيْضَهُ

كَلَمْعِ اليَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّلِ

يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيْحُ رَاهِبٍ

أَمان السَّلِيْطَ بالذُّبَالِ المُفَتَّلِ

قَعَدْتُ لَهُ وصُحْبَتِي بَيْنَ حامر

وبَيْنَ إكام، بُعْدَمَا مُتَأَمَّلِي

فأَضْحَى يَسُحُّ المَاءَ عن كل فيقةٍ

يَكُبُّ عَلَى الأذْقَانِ دَوْحَ الكَنَهْبَلِ

وتَيْمَاءَ لَمْ يَتْرُكْ بِهَا جِذْعَ نَخْلَةٍ

وَلاَ أُطُماً إِلاَّ مَشِيداً بِجِنْدَلِ

كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً

مِنَ السَّيْلِ وَالغُثّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ

كَأَنَّ أباناً فِي أفانين ودقه

كَبِيْرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ

وأَلْقَى بِصَحْرَاءِ الغَبيْطِ بَعَاعَهُ

نُزُوْلَ اليَمَانِي ذِي العِيَابِ المحملِ

كَأَنَّ سباعاً فِيْهِ غَرْقَى غُديّة

بِأَرْجَائِهِ القُصْوَى أَنَابِيْشُ عَنْصُلِ

عَلَى قَطَنٍ، بِالشَّيْمِ، أَيْمَنُ صَوْبِهِ

وَأَيْسَرُهُ عَلَى السِّتَارِ فَيَذْبُل

وَأَلْقى بِبَيسانَ مَعَ الليلِ بَرْكَهُ

فَأَنْزَلَ مِنْهُ العُصْمَ مِنْ كُلِّ مَنْزِلِ

———————


شرح القصيدة من كتاب شرح المعلقات السبع للزوروني

تعدّ معلقة امرئ القيس من القصائد الطوال، اشتملت على أغراض متنوعة، وعلى شاكلة القصائد الجاهلية قسمت إلى عدد من اللوحات بلغ عددها ستّ لوحات، تحمل كل منها فكرة أراد الشاعر إيصالها، لكن فيما يأتي شرح موجز لثلاثة منها:

شرح اللوحة الأولى: الأطلال، الحزن والألم

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

فَتُوْضِحَ فَالمِقْرَاةِ لم يَعْفُ رَسْمُهَا

لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ

تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ في عَرَصَاتِهَا

وَقِيْعَانِهَا كَأَنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ

كَأَنِّيْ غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا

لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ

وُقُوْفًا بِهَا صَحْبِيْ عَليََّ مَطِيَّهُمْ

يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَمَّلِ

وَإِنَّ شِفَائِيْ عَبْرَةٌ مَهَراقَةٌ

فهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ؟

كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَـا

وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ

فَفَاضَتْ دُمُوعُ العَيْنِ مِنِّيْ صَبَابَةً

عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي

بدأت هذه اللوحة بالبيت الأول وانتهت بالبيت الثامن من القصيدة، وهي مقدمة طللية رسم فيها الشاعر صورة لحالته الحزينة والحسرة التي تختلج في صدره جراء فقدانه لمحبوبه، الذي بيّن المواضع التي كان فيها وجمعتهما، فهي حاضرة في ذهنه وواضحة المعالم بالرغم من مرور الزمن وتعاقب الرياح عليها، فيطلب من أصحابه الوقوف والبكاء معه على ذكرياته مع المحبوب عسى أن يخفف ذلك من حزنه وألمه.

ويُفصّل الشاعر في حديثه عن ديار المحبوب، ويُشير إلى أنّها أصبحت خالية من الناس بعد مصيبة حلّت بها، فأخذتها الظباء مأوى لها وانتشرت في أنحائها كحبّ الفلفل عند نثره على الأرض، ثم يصوّر رحيل أهلها عنها رغم ارتباطهم الشديد بها وأثر ذلك في نفسه حيث غدا حزينًا باكيًا يبتل محمل سيفه من غزارة دموعه، فلا شفاء له من داء الفراق إلا البكاء، ومن المفردات التي تحتاج إلى توضيح ما يأتي:

سقط: منقطع الرمل.

اللوى: رمل يلتوي ويعوجّ.

الدخول وحومل: أسماء مواضع.

توضح والمقراة: أسماء مواضع.

لم يعف رسمها: لم يمحُ أثرها.

الأرآم: الظباء خالصة البياض.

عرصاتها: مفردها عرصة، وهي الساحة الواسعة التي لا بناء فيها.

قيعانها: جمع قاع، وهي المستوي من الأرض.

البين: الفراق.

تحمّلوا: ارتحلوا.

سمُرات: من شجر الطلح.

ناقف حنظل: جاني الحنظل.

المطي: المراكب.

تجمّل: اصبر.

عبرة: دمعة.

مهراقة: مصبوبة.

المعول: المعتمد عليه.

مأسل: اسم جبل.

تضوع: انتشرت رائحته.

ريا: الرائحة الطيبة.

الصبابة: رقة الشوق.

محملي: حمّالة السيف.

شرح اللوحة الثانية: النسيب والتشبيب

أَلا رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ

وَلا سِيَّمَا يَوْمٌ بِدَارَةِ جُلْجُلِ

وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِيْ

فَيَا عَجَبًا مِنْ رَحْلِهَا المُتَحَمَّلِ

يَظَلُّ العَذَارَى يَرْتَمِيْنَ بِلَحْمِهَا

وَشَحْمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ

وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ

فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلاتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي

تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعًا

عَقَرْتَ بَعِيْرِيْ يَا امْرَأَ القَيْسِ فَانْزِلِ

فَقُلْتُ لَهَا سِيْرِيْ وَأَرْخِي زِمَامَهُ

وَلا تُبْعِدِيني مِنْ جَنَاكِ المُعَلِّلِ

فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعًا

فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِيْ تَمَائِمَ مُغْيَلِ

إذا ما بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْحَرَفَتْ لَهُ

بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لم يُحَوَّلِ

وَيَوْمًا عَلَى ظَهْرِ الكَثِيْبِ تَعَذَّرَتْ

عَلَيَّ وَآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ

أَفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَّدَلُّلِ

وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِيْ فَأَجْمِلِي

وَإنْ كنتِ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّيْ خَليْقَةٌ

فَسُلِّيْ ثِيَابِيْ مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ

أَغَرَّكِ مِنِّيْ أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي

وَأَنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَلِ

وَمَا ذَرَفَتْ عَيْناكِ إِلا لِتَقْدَحِي

بِسَهْمَيْكِ في أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ

وَبَيْضَةِِ خِدْرٍٍ لا يُرَامُ خِبَاؤُهَا

تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ

تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا وَأَهْوَالَ مَعْشَرٍاً

عَلَيَّ حِرَاصٍ لَوْ يُشِرُّونَ مَقْتَلِي

إذا ما الثُّرَيَّا في السَّمَاءِ تَعَرَّضَتْ

تَعَرُّضَ أَثْنَاءِ الوِشَاحِ المُفَصَّلِ

فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَتْ لنَوْمٍ ثِيَابَهَا

لَدَى السِّتْرِ إِلاَّ لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ

فَقَالَتْ يَمُيْنَ اللهَ ما لَكَ حِيْلَةٌ

وَمَا إِنْ أَرَى عَنْكَ العَمَايَةَ تَنْجَلِي

خَرَجْتُ بِهَا تَمْشِيْ تَجُرُّ وَرَاءَنَا

عَلَى أثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ

فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَانْتَحَى

بِنَا بَطْنُ حِقْفٍ ذِيْ رُكَامٍ عَقَنْقَلِ

إِذَا التَفَتَتْ نَحْوِيْ تَضَوَّعَ رِيْحُهَا

نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ

إِذَا قُلْتُ هَاتِيْ نَوِّلِيْنِيْ تَمَايَلَتْ

عَلَيَّ هَضِيْمَ الكَشَحِ رَيَّا المُخَلْخَلِ

مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفاضَةٍ

تَرَائِبُهَا مَصْقُوْلَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ

كِبِكْرِ مُقَانَاةِ البَيَاضِ بِصُفْرَةٍ

غَذَاهَا نَمِيْرُ المَاءِ غَيْرِ المُحَلَّلِِ

تَصُدُّ وَتُبْدِيْ عَنْ أَسِيْلٍ وَتَتَّقِيْ

بِنَاظِرَةٍ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِلِ

وَجِيْدٍ كَجِيْدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ

إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلا بِمُعَطَّلِ

وَفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أَسْودَ فَاحِمٍ

أَثِيْثٍ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ

غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إلى العُلا

تَضِلُّ المَدَارَى في مُثَنًى وَمُرْسَلِ

وَكَشْحٍ لَطِيْفٍ كَالجَدِيْلِ مُخَصَّرٍ

وَسَاقٍ كَأُنْبُوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّلِ

وَتَعْطُو بِرَخْصٍ غَيْرِ شَثْنٍ كَأَنَّهُ

أَسَارِيْعُ ظَبْيٍ أَوْ مَسَاوِيْكُ إِسْحِلِ

تُضِيءُ الظَّلامَ بِالعِشَاءِ كَأَنَّهَا

مَنَارَةُ مُمْسَى رَاهِبٍ مُتَبَتِّلِ

وَتُضْحِيْ فَتِيْتُ المِسْكِ فَوْقَ فِرَاشِهَا

نَؤُوْمُ الضُّحَى لم تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ

إِلى مِثْلِهَا يَرْنُو الحَلِيْمُ صَبَابَةً

إِذَا ما اسْبَكَرَّتْ بَيْنَ دِرْعٍ ومِجْوَلِ

تسلت عمايات الرجالِ عن الصّبا

وليسَ صِبايَ عن هواها بمنسل

ألا رُبّ خَصْمٍ فيكِ ألْوَى رَدَدتُه

نصيح على تعذَاله غير مؤتل

تمتدّ هذه اللوحة من البيت التاسع إلى البيت الثالث والأربعين، وفيها يستذكر الشاعر قصصه وذكرياته في الغزل والتشبيب واللهو والعبث، حيث كان هائمًا في ملاحقة النساء والتغزل بهنّ، وقد ذكر الشاعر في هذا الجانب خمس قصص؛ منها قصة دارة جلجل وما حدث فيها، وقصته مع عنيزة وفاطمة، وهي مفصّلة في الأبيات أعلاه بتفاصيل دقيقة ومعبّر عنها بأجمل الصور الفنية والتعابير، وبين سطور حديثه عن الغزل والنساء يورد الشاعر بعضًا من مفاخره ومواطن شجاعته وقدرته على الوصول إلى المحبوبة، ومن المفردات التي تحتاج إلى توضيح ما يأتي:

دارة جلجل: اسم غدير بعينه.

العذارى: النساء البكر.

الكور: الرحل.

هدّاب: ما استرسل من الشيء.

الدمقس: أجود الحرير الأبيض.

الخدر: الهودج.

عنيزة: اسم ابنة عم الشاعر أو لقبها.

الويلات: شدة العذاب.

مُرجلي: تجعلني راجلة؛ أي أمشي على رجلّي.

الغبيط: ضرب من الرحال أو الهودج.

المعلل: المكرر أو الملهّى.

طرقت: جئت ليلًا.

تمائم: تعاويذ.

شقّ: نصف.

الكثيب: الرمل الكثير.

أزمعتِ صرمي: وطّنتِ نفسكِ على الفراق.

خليقة: خلق من أخلاقي.

بيضة خدر: أي امرأة لزمت خدرها.

يُرام: يُطلَب.

الخباء: بيت من وبر أو شعر أو صوف.

المعشر: القوم.

الأثناء: النواحي.

نضت: خلعت.

الغواية: الضلالة.

تنجلي: تنكشف.

المرط: كساء من خزّ أو من صوف.

المُرحّل: المنقش بنقوش تشبه رحال الإبل.

أجزنا: قطعنا.

بطن: مكان مطمئن حوله أماكن مرتفعة.

خبت: أرض مطمئنة.

الحقف: رمل معوج.

عقنقل: رمل منعقد متلبد.

هضيم: ضامر.

الكشح: منقطع الأضلاع.

المخلخل: موضع القلادة من العنق.

مهفهفة: لطيفة الخصر ضامرة البطن.

المفاضة: المرأة عظيمة البطن مسترخية اللحم.

الترائب: موضع القلادة من الصدر.

السجنجل: المرآة.

المقاناة: الخلط.

النمير: الماء النامي في الجسد.

أسيل: طويل الخدّ.

وجرة: موضع.

الرئم: الظبي خالص البياض.

الفرع: الشعر التام.

الفاحم: شديد السواد.

أثيث: كثير.

النخلة المتعثكلة: النخلة التي خرجت عثاكيلها؛ أي قنوانها.

غدائره: خصلات الشعر.

مستشزرات: مرتفعات.

العقاص: الخُصل المجموعة من الشعر.

الجديل: خطام يتخذ من الأدم.

العطو: التناول.

الرخص: اللين الناعم.

الششن: الغليظ الكزّ.

الأساريع: نوع من الدود.

ظبي: موضع بعينه.

الإسحل: شجرة تدق أغصانها في استواء.

الإسبكرار: الطول والامتداد.

الدرع: قميص المرأة.

المجول: ثوب تلبسه الجارية الصغيرة.

الألوى: شديد الخصومة.

نصيح: ناصح.

تعذاله: لومه.

مؤتل: مقصّر.

شرح اللوحة الثالثة: العودة للهم ومحاولة التصبر

وليل كموج البحر أرخى سدولهُ

عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي

فَقُلْتُ لَهُ لما تَمَطّى بجوزه

وأردف أعجازا وناء بكلكل

ألا أيّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلي

بصُبْحٍ وما الإصْباحَ فيك بأمثَلِ

فيا لكَ من ليلْ كأنَّ نجومهُ

بكل مغار الفتل شدت بيذبل

كأنَّ الثريا علقت في مصامها

بأمْراسِ كتّانٍ إلى صُمّ جَندَلِ

امتدت هذه اللوحة من البيت الرابع والأربعين، وفيها يعود الشاعر إلى حالة الهمّ والحزن التي بدا عليها في اللوحة الأولى من القصيدة، فيبث شكواه من خلال تشبيه الليل بموج البحر، وكأنّ الأمواج تتقاذفه وقد أسدل الهمّ ستاره عليه وأرخاه، فيُمعن في إيذائه وزيادة حزنه.

فيطلب الشاعر من الليل أن ينتهي ويزول علّ حزنه يزول معه، مع أنّ الصباح ليس أفضل منه، لكن هذا الليل من شدة طوله نجومه ثابتة لا تتحرك وكأنها رُبطت بأقوى الحبال بجبل يذبل، وحتى الثريا التي يسترشد بها الساري وقت الليل توقفت هي الأخرى عن الحركة وكأنّها مقيّدة بأقوى الحبال، وهذا كلّه يكشف عن حالة الاضطراب النفسي التي عانى منها الشاعر، ومن المفردات التي تحتاج إلى توضيح ما يأتي:

السدول: الستور.

تمطى: تمدد.

أردف أعجازًا: ازدادت أواخره طولًا.

الكلكل: الصدر.

الأمثل: الأفضل.

يذبل: اسم جبل عظيم.

الأمراس: جمع مرس، وهو الحبل.

صم: صلب.

جندل: صخرة.

السمات الفنية في معلقة امرئ القيس

اصطبغت معلقة امرئ القيس بعدد من الخصائص والسمات الفنية، يُذكر منها ما يأتي:

استخدام الجمل الفعلية في القصيدة بنسبة أكبر من الجمل الإسمية؛ لملاءمتها للانفعالات والعواطف فيها.

الاعتماد على الأساليب الإنشائية أكثر من الأساليب الخبرية، والتنويع فيها ما بين أمر واستفهام ونداء.

استخدام الألفاظ والتعابير ذات الصلة والارتباط بحالة الشاعر في كل لوحة من لوحات القصيدة.

توظيف الحقول الدلالية التي تخدم المعنى العام للقصيدة.

جودة التصوير وحسن التخلص والانتقال من لوحة إلى أخرى.

القدرة على الرجوع إلى الماضي مع توافق البعد الزماني والمكاني فيها.

——————————

امْرُؤُ القَيْس (نحو ١٣٠ – ٨٠ ق هـ = نحو ٤٩٧ – ٥٤٥ م)

امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي: أشهر شعراء العرب على الإطلاق. يماني الأصل. مولده بنجد،

اشتهر بلقبه، واختلف المؤرخون في اسمه، فقيل حندج، وقيل مليكة، وقيل عديّ. وكان أبوه ملك أسد وغطفان.

وأمه أخت المهلهل الشاعر، فلقنه المهلهل الشعر، فقاله وهو غلام، وجعل يشبب ويلهو ويعاشر صعاليك العرب، فبلغ ذلك أباه، فنهاه عن سيرته فلم ينته. فأبعده إلى (دمّون) بحضرموت، موطن آبائه وعشيرته، وهو في نحو العشرين من عمره. فأقام زهاء خمس سنين، ثم جعل يتنقل مع أصحابه في أحياء العرب، يشرب ويطرب ويغزو ويلهو، إلى أن ثار بنو أسد على أبيه وقتلوه، فبلغ ذلك امرؤ القيس وهو جالس للشراب فقال: رحم الله أبي! ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم، ولا سكر غدا! اليوم خمر، وغدا أمر!، ونهض من غده فلم يزل حتى ثأر لأبيه من بني أسد، وقال في ذلك شعرا كثيرا.

وكانت حكومة فارس ساخطة على بني آكل المرار (آباء امرئ القيس) فأوعزت إلى المنذر (ملك العراق) بطلب امرئ القيس، فطلبه، فابتعد، وتفرق عنه أنصاره، فطاف قبائل العرب حتى انتهى إلى السموأل، فأجاره. فمكث عنده مدة. ثم رأى أن يستعين بالروم على الفرس. فقصد الحارث ابن أبي شمر الغساني (والي بادية الشام) فسيره هذا إلى قيصر الروم يوستينيانس في القسطنطينية، فوعده ومطله، ثم ولاه إمرة فلسطين، فرحل يريدها. فلما كان بأنقرة ظهرت في جسمه قروح. فأقام إلى أن مات في أنقرة. وقد جُمع بعض ما ينسب إليه من الشعر في ديوان صغير، وكثر الاختلاف في ما كان يدين به، ولعل الصحيح إنه كان على المزدكية، وفي تاريخ ابن عساكر أن امرأ القيس كان في أعمال دمشق وأن (سقط اللوى) و(الدخول) و(حومل) و(توضيح) و(المقراة) الواردة في مطلع معلقته، أماكن معروفة بحوران ونواحيها. وقال ابن قتيبة: (هو من أهل نجد. والديار التي يصفها في شعره كلها ديار بني أسد).

وكشف لنا ابن بليهد (في صحيح الأخبار) عن طائفة من الأماكن الوارد ذكرها في شعره، أين تقع وبماذا تسمى اليوم، وكثير منها في نجد. ويعرف امرؤ القيس بالملك الضّليل (لاضطراب أمره طول حياته) وذي القروح (لما أصابه في مرض موته) وكتب الأدب مشحونة بأخباره.

المصدر: الأعلام للزركلي

يسري الخطيب

- شاعر وباحث ومترجم - مسؤول أقسام: الثقافة، وسير وشخصيات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى