مقارنة بين الإمامين الشاه ولي الله الدهلوي والمعلم عبد الحميد الفراهي

بقلم: د. محمد أكرم الندوي

السيد عثمان خان، طالب دكتوراه من نيوجيرسي في أمريكا، كتب إلي: السلام عليكم مولانا!

أرجو أن تكونوا بخير، سؤال خطر ببالي: هل يمكنكم كتابة مقال عن أوجه التشابه والاختلاف بين الشاه ولي الله ومولانا الفراهي،

خاصة فيما يتعلق بالقرآن الكريم؟ سيكون هذا المقال مفيدًا جدًا لي، جزاكم الله خيرًا.

الجواب:

سأركز في الجواب على رؤوس المسائل المتعلقة بالقرآن الكريم، وقبل ذلك أود أن أشير إلى أن الشاه ولي الله الدهلوي (1114-1176ه) والمعلم عبد الحميد الفراهي (1280-1349ه) رحمهما الله من أئمة الاجتهاد والتحقيق، ومن أبعد الناس عن التقليد وتبعية الغير، وهذا ظاهر من كتاباتهما، وهو المنطلق انطلقا منه في آرائهما وأبحاثهما.

أهمية الرجوع إلى القرآن الكريم:

يشترك الدهلوي والفراهي في رجوعهما إلى القرآن الكريم متدبرين إياه ومتمسكين به ومستنبطين منه، وذلك هو شأن السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم رضي الله عنهم، يقول الدهلوي في ذكر عنايته بكتاب الله: “لقد تلقى الجيل الأول منه صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم، وتلقى الجيل الثاني من الجيل الأول، وهكذا دواليك حتى وصل إلى العبد الضعيف فنال حظه من تلاوته وفهمه وتدبره”. (الفوز الكبير ص 27).

ويقول: “إنه لما فتح الله تعالى على بابا من كتابه الحكيم، خطر لي أن أقيد الفوائد النافعة التي تنفع إخواني في تدبر كلام الله عز وجل وأرجو أن مجرد فهم هذه القواعد يفتح للطلاب طريقا واسعا إلى فهم معاني كتاب الله تعالى، وأنهم لو قضوا أعمارهم في مطالعة كتب التفسير، أو قراءتها على المفسرين، لا يظفرون بهذه القواعد والأصول بهذا الضبط والتناسق”. (الفوز الكبير ص 27-28).

وكذلك قضى الفراهي عمره في تدبر كتاب الله واستكشاف معانيه، واستجلاء دقائقه، يقول في مقدمة نظام القرآن: “إني قد تصفحت كتب التفسير وسبرتها سبرا، فما وجدتها إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، فلم تبرد غلتي، بل زادت قلبي حرا، وملأت كبدي جمرا”.

“ففزعت إلى تدبر كتاب الله وسعة معانيه وتركت أقاويل الناس هجرا، وكانت بداية أمري أني بينما كنت أجيل الطرف في نجوم الآيات إذ أضاء لي في أفقها الأعلى سلك نظامها مثل الخيط الأبيض من الصبح فما ازداد إلا سطوعا وجهرا، فكشف الحجاب عن فؤادي أو طحر قذى عن عيني طحرا، فأبصرت قصدي وتبينت رشدي وصرت أعمل في أساليب نظامها وأعاجيب رباطها فكرا”.

“وقضيت على ذلك عصرا، ومن أحسن عمري شطرا، حتى ولى الشباب ظهرا، وأذاقني المشيب طعما مرا، وكرت علي الأسقام والأوجاع كرا، ولامني الصديق ونظر الحقود إلي شزرا، بأني ركبت وعرا، وتوليت أمرا إمرا، ولكني لم أزل مشتغلا بخصيصاي لا أقصر عنها قصرا، كأن أمرا من السماء يسوقني إليها قسرا”.

أسباب النزول:

يقول الدهلوي: “وقد ربط عامة المفسرين كل آية من آيات الأحكام وآيات المخاصمة بقصة تروى في سبب نزولها، وظنوا أنها هي سبب النزول، والحق أن نزول القرآن الكريم إنما كان لتهذيب النفوس الإنسانية، وإزالة العقائد الباطلة، والأعمال الفاسدة”.

“فالسبب الحقيقي – إذن – في نزول آيات المخاصمة هو وجود العقائد الباطلة في نفوس المخاطبين. وسبب نزول آيات الأحكام إنما هو شيوع المظالم ووجود الأعمال الفاسدة فيهم. وسبب نزول آيات التذكير (بآلاء الله وأيامه وبالموت) إنما هو عدم تيقظهم وتنبههم بما يرون ويمرون عليه من آلاء الله وأيامه، وحوادث الموت، وما سيكون بعده من وقائع هائلة”.

“أما الأسباب الخاصة والقصص الجزئية التي تجشم بيانها المفسرون فليس لها دخل في ذلك إلا في بعض الآيات الكريمة، التي تشتمل على تعريض بحادث من الحوادث في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – أو قبله، بحيث يقع القارئ بعد هذا التعريض في ترقب وانتظار لما كان وراءه من قصة أو حادث أو سبب، ولا يزال ترقبه إلا بسيط القصة وبيان سبب النزول.” (الفوز الكبير ص 31)

ومثله ما يقول الفراهي:

“ليس شأن النزول، كما قيل تسامحا، سببا لنزول آية أو سورة، بل هو شأن الناس وأمرهم الذي كان محلا للكلام، فما من سورة إلا ولها أمر أو أمور جعلتها نصب العين، وذلك تحت عمود السورة، فلك أن تلتمس شأن النزول من نفس السورة، فإن الكلام لا بد أن يكون مطابقا لموضعه كما أن الطبيب مثلا يتوسم من نسخة الدواء داء من قد كتبت له تلك النسخة، فإذا كان سوق الكلام لموضوع تناسب هذا الكلام والموضوع، كتناسب اللباس والجسم، بل كتناسب الجلود والأبدان، والكلام له مناسبة بين أجزائه بعضها ببعض، وما جاء في الآثار أن كذا وكذا من الآيات نزلت في كذا وكذا من الأمور فمعناه أن كذا وكذا من الأمور كان موجودا حين نزول السورة، لكي يعلم أن الآيات كانت لها دواع ومواقع. (فاتحة نظام القرآن ص 25).

وأما الجزئيات الخاصة لأسباب النزول فيقول الدهلويب:

“ومن المواضيع الصعبة أيضا معرفة أسباب النزول، ووجه الصعوبة في هذا الباب كذلك اختلاف المتقدمين والمتأخرين فيها”.

“وما يستفاد من استقراء كلام الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أنهم لا يقولون “نزلت في كذا” لمجرد بيان الحديث الذي وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان سببا لنزول تلك الآية، بل إنهم يستعملون هذا التعبير أحيانا لبيان ما تنطبق عليه الآية وتصدق عليه مما حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده، فهو بيان لصورة من الصور التي تصدق عيلها الآية فيقولون عند ذاك “نزلت في كذا” ولا يلزم في مثل هذا الموضع أن تنطبق جميع القيود الواردة في الآية على الحادث، بل يكفي أن ينطبق أصل الحكم الوارد فيها”.

“وتارة يكون قد أورد بعض الصحابة رضي الله عنهم في حضرته صلى الله عليه وسلم سؤالا. أو يقع حادث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون هو صلى الله عليه وسلم قد استنبط حكمه من آية من الآيات وتلاها عليهم في ذلك الباب، فيحكون هذا الحادث ويقولون “نزلت الآية في كذا” وتارة يقولون عند ذلك “فأنزل الله تعالى قول كذا” أو “فنزلت كذا”. وإذا عبر أحد عن ذلك بتكرار نزول الآية فله كذلك مساغ”. (الفوز الكبير ص 95-96)

وهذا ما يوافقه عليه الفراهي (انظر فاتحة نظام القرآن ص 25-27)، بل هو ما سبقهما إليه الإمام ابن تيمية في مقدمة أصول التفسير، ومنه أخذه المؤلفون في علوم القرآن وأصول التفسير.

النسخ:

يقول الدهلوي: “والذي يتضح لنا باستقراء كلام الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين في هذا الموضوع أنهم كانوا يستعملون “النسخ” بمعناه اللغوي المعروف الذي هو إزالة شيء لا بمعنى مصطلح الأصوليين الخاص”.

“فمعنى “النسخ” عندهم إزالة بعض الأوصاف في آية بآية أخرى، سواء كان ذلك بيانا لانتهاء مدة العمل بآية من الآيات الكريمة.

أَو صرف الكلام عن المعنى المتبادر إلى غير المتبادر أو بيان أن القيد اتفاق وليس احترازيا، أو تخصيصا للعموم.

أوْ بيان الفارق بين المنصوص والمقيس عليه ظاهرا.

أو إزالة عادة من العادات الجاهلية.

أوْ رفع شريعة من الشرائع السابقة.

وهكذا اتسع باب النسخ عندهم وتوسعوا في موضوعه، وكان للعقل فيه مجال فسيح، وللاختلاف فيه مكان واسع. ولذلك بلغت الآيات المنسوخة إلى خمسمائة آية، بل إذا حققت النظر تجدها غير محصورة بعدد.

أما المنسوخ حسب اصطلاح المتأخرين الأصولي فإنه لا يتجاوز العدد القليل، لا سيما حسب وجهة النظر التي اخترناها”. (الفوز الكبير ص 83-84).

وذهب الدهلوي إلى أن النسخ لا يصح في القرآن إلا في خمس آيات.

وللفراهي رسالة (الرسوخ في معرفة الناسخ والمنسوخ)، ألخص فيما يلي رأيه في النسخ:

إن من شرائع الدين ما لا يقع فيه النسخ، ومنها ما يقع فيه النسخ.

ما لا يقع فيه النسخ: هناك خمسة أمور لا يقع فيها النسخ أبدا:

1- الحقائق، وهي التي خلقها الله تعالى، مثل السموات والأرضين والشمس والقمر، قال تعالى: لا تبديل لخلق الله.

2- الأخبار، فكل ما أخبر به الله ورسوله صادق لا محالة، لا مجال للنسخ فيه.

3- الوعد، فكل ما وعد الله به في كتابه أو على لسان نبيه، لا يجري فيه نسخ، قال تعالى: “ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد”.

4- الأعمال المقصودة بالذات كالصدق والعفاف ومحبة الله وخوفه والشكر والصبر، فلا سبيل إلى النسخ فيها، قال تعالى: “شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى …”.

5- والأعمال الفطرية كالسنن المتوارثة عن الأنبياء والمرسلين من الأكل باليمين، وإعفاء اللحى، وتقليم الأظافر.

ما يقع فيه النسخ: هناك ثلاثة أمور يقع النسخ فيها:

1- الأعمال التدريجية، وهي الأعمال التي ليست مقصودة ولا فطرية، ولكن يتدرج بها العبد إلى الأعمال المقصودة والفطرية، فقد فرضت على بني إسرائيل أشياء أو حرمت عليهم حتى يستعدوا للفطرة الصالحة، وهي بمثابة تشديدات عليهم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فنسخها، وهذا الذي بشر الله به موسى عليه السلام عن النبي الموعود إذ قال: “… ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم … (سورة الأعراف 156-157)

ومنها التدريج من السهل إلى الصعب لتحقيق مصلحة الكمال، فقد أبيح للناس الكلام والسلام في الصلاة، ثم أمروا بالقنوت “وقوموا لله قانتين” حتى تكون صلاتهم أكمل صلاة.

ومنها التدريج إلى التخفيف والتيسير، ويدخل في ذلك التيمم والرخص في السفر والمرض، قال تعالى: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” (سورة البقرة 185).

2- الأهواء والبدع، وقد كثرت الأهواء والبدع في أتباع الديانات السماوية، فكلما جاء نبي أزالها حتى جاء دين الله الأخير فقضى على أهواء اليهود وبدع النصارى قضاء تاما.

ومن هذا النوع إصلاح العلماء لكل ما أفسده الناس من هذا الدين بتحريفهم وتأويلهم الزائغ، فوجب على العلماء أن يردوا الأمة إلى كتاب الله وسنن المصطفى صلى الله عليه وسلم.

3- الابتلاء المحض، وقد يكون النسخ ابتلاء محضًا للأمة مع ما فيه من تدريج إلى الكمال كما حصل في تحويل القبلة، قال تعالى: “وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا نعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه”.

الحكمة من النسخ:

تتجلى حكمة النسخ لمن نظر في أصول التربية، فمن مقتضى التدبير الصائب إخراج النفس عن هواها وفطامها عن شهواتها، فتجتهد النفس لتبرز ما انطوت عليه وتخرج من ثمارها الحلوة والمرة، وفي ذلك معنى الابتلاء.

والحكماء يراعون التدريج من الكمال إلى الأكمل، كما يراعون التيسير إذا كثرت الأوامر والنواهي.

ومن حكمة النسخ أيضًا بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس متعصبا، فتوجه إلى بيت المقدس، وصام يوم عاشوراء، ثم هداه الله لما هو أحسن وأقوم.

النظام:

لا يرى الدهلوي نظاما في القرآن، وهو في ذلك على العكس من الفراهي تماما، يقول: “لم ينزل القرآن الكريم على منهج المتون المبوبة والمفصلة حتى يكون كل موضوع فيه يختص بباب من الأبواب أو فصل من الفصول”.

“بل افترض القرآن الكريم كمجموعة الرسائل والفرامين التي يوجهها الملوك والسلاطين إلى رعاياهم حسب مقتضيات الأحوال ومتطلبات الظروف، ويوجهون واحدة ثم آخرى فثالثة فرابعة، وهلم جرا، حتى تجتمع نماذج كثيرة من هذه الفرامين، فيقوم شخص بتدوينها وترتيب مجموعة لها”.

“وهكذا المالك على الإطلاق جل ثناؤه أنزل على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم لهداية عباده وإرشادهم حسب مقتضيات الأحوال والظروف سورة بعد سورة، وقد كانت كل سورة من هذه السور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم محفوظة مضبوطة مكتوبة ولكن هذه السورة لم تكن مدونة مجموعة”. (الفوز الكبير ص 139-140)

الكلام في نظام القرآن

وكانت للفراهي عناية كبيرة بهذا الموضوع، وأبدع ما توصل إليه في فهمه للكتاب العزيز هو العثور على النظام فيه، يقول في كتابه دلائل النظام:

“قد صنف بعض العلماء في تناسب الآيات والسور، أما الكلام في نظام القرآن فلم أطلع عليه، والفرق بينهما أن التناسب إنما هو جزء من النظام..

فإن التناسب بين الآيات بعضها مع بعض لا يكشف عن كون الكلام شيئا واحدا مستقلًا بنفسه، وطالِب التناسب ربما يقنع بمناسبة بين الآيات المتجاورة مع عدم اتصالها؛

فإن الآية التالية ربما تكون متصلة بالتي قبلها على بُعد منها، ولولا ذلك لما عجز الأذكياء عن إدراك التناسب”.

ويقول: “إن المراد بالنظام أن تكون السورة كلا واحدا، ثم تكون ذات مناسبة بالسورة السابقة واللاحقة،

أو بالتي قبلها أو بعدها على بُعد منها، فكما أن الآيات ربما تكون معترضة، فكذلك ربما تكون السورة معترضة، وعلى هذا الأصل نرى القرآن كله كلاما واحدا، ذا مناسبة وترتيب في أجزائه، من الأول إلى الآخر؛ فتبين مما تقدم أن النظام شيء زائد على المناسبة وترتيب الأجزاء”.

ويقول: “إن نظام القرآن ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو المنهاج الصحيح لتدبر القرآن، وهو المرجِّح عند تضارب الأقوال، وهو المعيِّن عند تعدد الاحتمالات، وهو الإقليد الذي تُفتح به كنوز القرآن”.

ويقول: “إن التناسب جزء من النظام، فإن التناسب بين الآيات بعضها مع بعض لا يكشف عن كون الكلام شيئا واحدا مستقلا بنفسه،

وطالب التناسب ربما يقنع بمناسبة ما، فربما يغفل عن المناسبة التي ينتظم بها الكلام، فيصير شيئا واحدا. وربما يطلب المناسبة بين الآيات المتجاورة مع عدم اتصالها،

فإن الآية التالية ربما تكون متصلة بالتي قبلها على بعد منها. فإن عدم الاتصال بين آيات متجاورة يوجد كثيرا.

ومنها ما ترى فيه اقتضابا بينا، وذلك إذا كانت الآية أو جملة من الآيات متصلة بالتي على بعد منها”.

د. محمد أكرم الندوي

عالم ومحدث، من أهل جونفور الواقعة ضمن ولاية أتر برديش الهندية. وباحث في مركز أوكسفورد للدراسات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights