
محمد نعمان الدين الندوي
أنا لا أقول: حرام علينا أو لا يجوز لنا الاحتفال بالعيد هذا..
ومن أنا.. حتى أتجرأ على الإنكار -والعياذ بالله- على فرحٍ يُعَدُّ من أفراح الإسلام الأصيلة العريقة، التي توارثها المسلمون ودرجوا عليها من صدر الإسلام إلى يومنا هذا.. فرحٍ ما أباحه رسول الإسلام فحسب.. بل ندب إليه، ورغّب فيه، وشارك الأمةَ في الاحتفال به.
بل أتساءل فقط.. أوجه سؤالي إلى كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان أو وفاء أو مروءة أو غيرة أو حياء أو شيءٍ اسمُه ضميرٌ..
هل يسوغ لنا الاحتفال بالعيد؟
وفي كل بيت -تقريبًا- من بيوت غزة مأتم ونوحة وعزاء..
وكيف تسمح ضمائرنا وترضى رجولتنا -إذا كانت لم تمت تمامًا – بأن نحتفل بأفراح العيد؟
وإخواننا في العقيدة والدين والتراب والطين واللحم والدم يتلبطون بالدماء، ويمطَرون -صباح مساء.. ليل نهار- بوابل من الصواريخ والقنابل، ويعانون من سياسة التجويع، فيحرمون كسرًا من الخبز يقيمون بها أودهم، ويسدون رمقهم، وقطرات من الماء يبلون بها حلوقهم..
آه.. لقد غاض الوفاء.. وماتت الغيرة.. وخمدت المروءة.. وفقدت وشائج القربى والدم معناها، ورابطة الدين والعقيدة حقيقتها.. فعادت كلمات جوفاء بلا معنى ولا مدلول ولا روح..
بل نقول: ماتت الإنسانية تمامًا.. فعلينا أن نقرأ الفاتحة عليها.. ويعزي بعضنا بعضًا..
الإنسان إذا رأى بهيمة تتألم أو تتململ أو تتضور جوعًا أو عطشًا.. تألم لهذا المنظر.. وربما بكى.. وحاول التخفيف -بقدر الإمكان- من ألم البهيمة ومعاناتها إرضاءً لضميره واستجابة لنداء جبلته، وتجاوبًا مع عاطفته النبيلة الراحمة المتعاطفة مع كل بائس ملهوف بغض النظر عن كونه إنسانًا أو حيوانًا.. تلك العاطفة التي يفطر عليها كل إنسان تقريبًا.. وتكاد تكون ميزة مشتركة عامة لجميع بني البشر.
ولكن أين ذهبت عاطفتنا نحن؟ نحن الذين يسمون: المسلمين والعرب -منهم خاصة- الذين كان من أخص خصائصهم صلة ذوي القربى وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم ومسح الدموع للبائس المنكوب…
فما كانوا يترددون لحظة في مد يد الإغاثة إلى من يطلبها أو يستحقها.. وقد قال قائلهم -وهو صادق مصيب في قوله-:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا
هل صارت مكارم العرب هذه قصصًا تروى للتفاخر أو للزيادة في المعلومات فقط، ولم تعد لها عين ولا أثر على أرض الواقع الآن..
المسلم العربي يرى إخوانه وأخواته -من الشبان والشيوخ والعجائز- والأطفال كالبراعم والأكمام يقتلون تقتيلًا.. وتطير لحوم أجسادهم أشلاء ممزقة متناثرة هنا وهناك.. يرى هذه المجازر الوحشية والإبادة الجماعية لبني جنسه، ولذوي قرابته وأبناء دينه وملته على غلوة منه.. ثم لا تتحرك له نخوة.. ولا يفور فيه الدم، ولا تثور فيه حمية..
هل لم يعد الدم -أيضا- دمًا أصيلًا خالصًا.. هل صار -مثل الأشياء الأخرى- دمًا مغشوشًا مشوبًا؟
هل أمن المجاورون -القريبون منهم والبعيدون- لغزة على أنفسهم؟
هل هم يظنون أنهم بهذه المحاباة وخطة عدم الانحياز أو عدم التدخل في شؤون الآخرين.. يؤمّنون على أنفسهم وبلدانهم.. ويصونون مستقبلهم..
لا والله.. إنهم يخادعون أنفسهم، ويعيشون في جنة الحمقاء.. بل إنهم – بفعلتهم هذه – يعرضون أنفسهم ومستقبلهم للخطر والدمار.. ولا قدر الله ذلك..
إنهم إذا لم يساعدوا أهل غزة الآن.. فستنقلب الكرة عليهم لا محالة.. وهذا العدو الوحش لا يتركهم يعيشون بسلام وأمان.. فإن من مطامعه التوسعية – كما يعلم الجميع – تحقيق إسرائيل الكبرى: من النيل إلى الفرات!
فتقدُّمُهُم الآن لنصرة إخوانهم في غزة يصب في مصلحتهم -هُم- مستقبلًا، وجعلِه أكثر أمانًا وحفظًا من الكيد والشر والسوء.
كأن الأمة على بكرة أبيها تواطأت على خذلان أهل غزة وتركهم لقمةً سائغة للعدو الشرس الذي لا يرعى في مؤمن إلًّا ولا ذمة ولا حرمة ولا عهدًا..
بل والبعض من أبناء الأمة -إذا لم نقل: الكثير منها- صاروا أذنابًا وعملاء للعدو في الجريمة، وشركاءَه في تدمير غزة، ومساعديه في إبادة الأشقاء..
غاية في النذالة والرذالة.. وأحط درجة من اللؤم والخبث والخيانة.. لم يسبق لها نظير – على الأقل – في تاريخ الأمة الحديث.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان
يا ليت الأمة -من أولها إلى آخرها- كانت اتحدت وتضامنت مع غزة، وقامت بكل ثقلها وقوتها، وعددها وعتادها، وخاصتها وعامتها لنصرة أهل غزة.
إن هذه الحرب محّصت وكشفت النقاب عن الكثير من المنافقين، وعَرَّتْهُم وفضحتهم في قارعة الطريق، وقد كان منهم من يقدم نفسه كأعظم مخلص للإسلام والمسلمين، وأكبر متعاطف ومؤيد للقضية الفلسطينية، ولكنه كان في الحقيقة ضدها، كانت فلسطين على لسانه، وإسرائيل في قلبه، كان يطلق لها تهديدات فارغة ظاهرًا.. بينما ظل يقيم معها العلاقات التجارية وغيرها سرًا.. هذا في جانب..
وفي جانب آخر.. ظلّ يُسَفّه أهل فلسطين ويخدعهم ويعللهم ويلهّيهِم بالكلمات الحلوة ويعدهم وعودًا معسولة.. ولم يوف بأي منها (كان -مع الأسف- منا.. نحن العجم!)، فصار وصمة عار على جباهنا، بعد ما كان تاجًا على رؤوسنا..
أنا والله ما فوجئت، ولا أصابني شيء من الحيرة أو الاستعجاب.. حينما نكث العدو العهدَ، ومزق اتفاقية وقف إطلاق النار، وعاود شن الغارات على غزة، بل كنت أخشى ذلك منذ أول يوم وُقّع فيه على الاتفاقية، لأن نكث العهود ونقض الميثاق مما رضع بلبانه اليهود، وهو فطرة متأصلة فيهم، لا فكاك لهم عنها.. وهذا ما سجله القرآن الكريم نفسه، وبهذه الخصلة الشنيعة عُرفوا في تاريخهم الطويل المدنس بسلسلة من الجرائم النكراء، وبها لُعِنوا وجُعلت قلوبهم قاسية: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية}.
فهذه الأمة الملعونة -اليهود- عجنت طينتها بالغدر والنقض والخيانة والخبث والدناءة، لم تبال بحرمة الأنبياء وقداستهم، بل وتجرأت على الذات الإلهية -جل شأنها وتنزهت- ووصفتها بما لا يليق بإنسان كريم فضلًا عن أكرم الأكرمين..
هذه الأمة القذرة لا تعرف للخلق والعهد والوفاء معنًى، وقواميسُها ومعاجمها خالية من أي كلمة تنم عن معنى من هذه المعاني الشريفة..
إنها لا تفهم منطقًا غير منطق القوة والسلاح، ولا تستسلم إلا للغة الشجاعة والجراءة والصمود.. تلك الصفات التي يواجه بها أبطالُ غزة وحشية هؤلاء الأنذال المحتلين حثالةُ الشعوب ولعنةُ التاريخ ووصمةُ عار وشنار على جبين الإنسانية الطاهر.
ولكن هناك سؤالًا صارخًا -يتحدى غيرة كل مسلم وحميته- موجه إلينا نحن مسلمي العالم قاطبة: هل نحن -أمة المليار ونصف مليار شخص- نظل نتفرج على مجازر غزة.. بدم بارد.. بغيرة ميتة.. مكتفين بالحوقلة والاسترجاع، والدعاء الخالي من الحرارة واللوعة.. ثم نظن أننا أدينا ما علينا من الواجب نحو إخواننا في غزة..
لا يا أمة الإسلام! أنا أسألك ونفسي.. هل ضمائرنا راضية بصنيعنا المخجل – دولًا وشعوبًا – مع أهل غزة..
الجواب بالتأكيد: في النفي..
على أننا نستثني هنا أهل بلد واحد شعروا بمسؤوليتهم تجاه إخوانهم المظلومين في غزة، ففعلوا ما استطاعوا نصرة لهم، وردًّا لعدوان الظالم وهمجيته..
إنهم أهل «اليمن» الميمون.. الذين أثنى على قوة عقيدتهم وحسن تفهمهم ورشاد تعقلهم ورقة قلوبهم لسان الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم «الإيمان يمان والحكمة يمانية».
فاليمنيون الكرام هؤلاء راعوا حق الأخوة.. الأخوة في الإسلام والعروبة والإنسانية..
لقد أثبت أهل اليمن أنهم ما زالوا كرامًا أوفياء نبلاء.. وما برحت الروح العربية الإسلامية في دمائهم ناضرة خضرة.. باقية حية.. وأنهم لم يعودوا فاقدي الضمير والغيرة والحمية والنخوة.. بل لا يزال يجري في عروقهم ذلك الدم العربيّ المسلم الذي امتازت به الأمة العربية، وفضلت وفاقت الأممَ الأخرى..
لقد فعل أهل اليمن كل ما استطاعوا.. لقد نشروا الرعبَ والفزعَ في ديار العدو بصواريخهم، وأقضوا مضجعه، وطيروا نومه، ونغصوا عيشه، وجرّعوه من الغصص، وأذاقوه من مر العيش ما لم يكن له بحسبان، كما عرقلوا تحركات العدو في البحر وحدّوا من نشاطه وحريته فيه، وألحقوا به من الخسائر ما استطاعوا..
وبذلك ساعدوا أهل غزة بما استطاعوا.. ساعدوهم بأخوتهم الإيمانية وروحهم العربية.. وبهمتهم وشجاعتهم.. أكثر بعدتهم وعتادهم.. إذ لا قيمة لعدتهم مقابل ما يمتلكه العدو من الآلات الجهنمية والأسلحة الفتاكة..
فكأن أهل اليمن الميمون الكرام أدوا فرض الكفاية عن الأمة كلها تجاه غزة العزة.. وإن كانت ظروفها تفرض مساعدتها فرض عين على الأمة كلها..
ولكن على كل حال.. أبطال اليمن حفظوا ماء وجه الأمة كلها بصنيعهم البطولي الفذ..
فنستطيع الآن أن نقول إن الأمة ما أجمعت على ترك النصرة لأهل غزة، بل نقول -تحلة للقسم- إن الأمة نصرت غزة، متمثلة في الإخوة اليمنيين الأماجد البواسل الكرام، الذين قاموا بأداء واجبهم حينما قصر فيه الآخرون، ونصروا غزة حينما خذلها الآخرون.
ألا.. عار علينا أن نحتفل بأفراح العيد، وإخواننا وأخواتنا وأبناؤنا وبناتنا في غزة يعيشون تحت القصف الهمجي، ويتنفسون في ظلال الموت كل وقت..
(ليلة الأحد: التاسع والعشرين -حسب التقويم الهندي- من رمضان المبارك ١٤٤٦ ھ = ٢٩ من مارس – آذار – ٢٠٢٥م).