في تاريخ الأمم محطات فارقة لا تخلّدها الحروب وحدها، ولا تُنقش في ذاكرة الشعوب بالسيوف والبيارق، بل يحفظها القلم الذي يدوّن ويرسم صورة الزمان في سطورٍ باقية لا تبلى.
ومن هؤلاء الذين كتبوا للتاريخ وحملوا عبء الحفظ والتوثيق المؤرخ المصري أبو المحاسن جمال الدين يوسف بن تغري بردي الأتابكي (813هـ/1410م – 874هـ/1470م)، الرجل الذي وُلد في قلب القاهرة المملوكية، ونشأ بين جدران القلاع وقصور الأمراء، فكان شاهدًا أمينًا على عصرٍ صاخب بالأحداث، متشابك بالخيوط السياسية والعسكرية والاجتماعية، ثم سلّم إلينا إرثًا ضخمًا صار من أعظم مفاتيح فهم تلك المرحلة الحرجة من تاريخ مصر والعالم الإسلامي.
النشأة والبداية
وُلِد ابن تغري بردي لأسرة مملوكية رفيعة؛ فأبوه الأمير تغري بردي الظاهري كان من كبار أمراء الدولة المملوكية. نشأ الفتى في بيئةٍ تُعانق السلطة وتجاور صانعي القرار، فشاهد بأم عينيه مجالس السلاطين وحلقات العلماء، وتفتحت مداركه على القاهرة التي كانت يومها عاصمة الدنيا الإسلامية ومركز القرار السياسي والعسكري. تعلّم الفقه والحديث واللغة على يد كبار شيوخ عصره، لكنه ما لبث أن مال إلى التاريخ والأنساب والسير، ليصبح في ما بعد المؤرخ الأكبر لعصره، والناقل الموثوق لوقائعه.
ولم يكتفِ بالسماع أو النقل، بل اعتمد على المشاهدة المباشرة، وعلى الوثائق التي وصلت إليه بحكم مكانته الاجتماعية، فخرجت كتاباته مزيجًا من عين الشاهد وقلم المؤرخ.
مؤلفاته الكبرى
ترك ابن تغري بردي مؤلفات كثيرة، لكن أبرزها بلا منازع كتابه الموسوعي «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة»، الذي امتد في ستة عشر جزءًا، جامعًا أخبار مصر منذ الفتح الإسلامي حتى عصره المملوكي. هذا الكتاب أشبه بخزانة ضخمة تحفظ تواريخ السلاطين والخلفاء، لكنها في الوقت ذاته تكشف عن تفاصيل الحياة اليومية: الأسعار، الضرائب، العمران، الأوبئة، الاحتفالات.
وما يزيد الكتاب قيمة أنه لم يقتصر على النقل، بل كان يضيف رأيه وتحليله، فيقوّم شخصية السلطان أو الوزير، ويبيّن أثر قراراته على الناس.
إلى جانب هذه الموسوعة، وضع كتابًا آخر فريدًا هو «حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور»، الذي يمثل أقرب ما يكون إلى الصحافة اليومية. ففيه يسرد الوقائع عامًا بعد عام، بل أحيانًا شهرًا بشهر. فإذا قرأه المرء شعر أنه يعيش بين أهل القاهرة في القرن التاسع الهجري؛ يسمع أنباء الغلاء، ويشهد اجتياح الطاعون، ويتابع أخبار العيد والموالد. لقد كان هذا الكتاب سجلًّا نابضًا، فيه صوت الناس وصدى الشوارع، لا مجرد أخبار السلاطين.
أما كتابه «المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي» فهو عمل ضخم في التراجم، جمع فيه سير العلماء والوجهاء والقضاة والأمراء، فصار سجلًا حيًا للشخصيات التي أثرت في الحياة الفكرية والسياسية. كما ألّف كتبًا أخرى مثل: الدليل الشافي على المنهل الصافي، وإلى من ولي مصر من الوزراء، وغاية السول في خصائص الرسول.
مصر كما رآها المؤرخ
صورة مصر في عصره التي نقلها إلينا لا تقتصر على السياسة والحروب، بل تمتد إلى الاقتصاد والمجتمع. ففي نصوصه إشارات متكررة إلى الغلاء والضرائب، إلى حركة التجارة في أسواق القاهرة، وإلى السفن القادمة من الهند واليمن، وإلى القوافل الذاهبة إلى دمشق والحجاز. وهو يتحدث عن العمران في القاهرة، وعن بناء الجوامع والمدارس، وعن انهيار بعض الجسور أو إصلاح الترع، ما يوضح أثر السياسات على حياة الناس. كما وصف الاحتفالات الشعبية، مثل الموالد الرمضانية وخروج الناس في الأعياد، بل وذكر حوادث الغرق والحريق والزلازل. أي أن مؤلفاته تقدم لنا صورة بانورامية متكاملة لمصر المملوكية.
أسلوبه ولغته
إذا تأملنا أسلوب ابن تغري بردي وجدناه يتسم بـالدقة الخبرية والوضوح اللغوي. لم ينغمس في المحسنات البديعية أو السجع المتكلف كما فعل بعض معاصريه، بل كتب بلغة أقرب إلى السرد المباشر، تُشبه في كثير من جوانبها اللغة الصحفية. وهو ما يجعل قراءة كتبه سهلة حتى للقارئ غير المتخصص.
كان يعتمد على المشاهدة المباشرة، فقد عاش قريبًا من الحكم، وجالس السلاطين والأمراء، واطلع على الوثائق الرسمية. لذلك جاء سرده للأحداث أكثر مصداقية من كثير من المؤرخين الذين نقلوا عن السماع أو من كتب سابقة.
كما لم يتردد في تقديم نقده، لكنه حرص أن يكون النقد متوازنًا لا يخرج به عن إطار الولاء للدولة المملوكية التي كان جزءًا منها.
بين المقريزي وابن إياس
ولعل ما يزيده فرادة أنه لم يكتب للتاريخ الرسمي وحده، بل كتب للمجتمع أيضًا. فبينما كان المؤرخ الكبير المقريزي يركّز على التحليل الاقتصادي والسياسي العميق، كان ابن تغري بردي يميل إلى جمع اليوميات والوقائع المتناثرة ليصنع منها لوحة شاملة. أما المؤرخ ابن إياس، الذي جاء بعده، فقد ورث عنه منهج السرد التفصيلي، واعتمد على مؤلفاته كثيرًا، لكنه صبغ كتاباته بطابع أكثر عاطفية. وهكذا يقف ابن تغري بردي في الوسط بين المقريزي المؤسس للنقد الاجتماعي، وابن إياس الناقل المتأثر بالأحداث، جامعًا بين الرؤية النقدية والحرص على التوثيق اليومي.
أثره في الدراسات الحديثة
وقد أثار اهتمام الباحثين المحدثين والمستشرقين؛ ففي القرنين التاسع عشر والعشرين اعتمدت الجامعات الأوروبية على كتبه لفهم طبيعة الحكم المملوكي، ونشرت بعض أجزائه محققة ومترجمة.
وأشاد المستشرقون بقدرته على جمع المعلومات وتدوينها بدقة، حتى وصفه بعضهم بأنه «أرشيف مصر المملوكية الحي». وما زالت الجامعات حتى اليوم تحقّق أجزاء جديدة من مؤلفاته، إذ لم تُطبع كل كتبه بعد.
لمحات من نصوصه
إذا دوّن وباءً اجتاح القاهرة، قال: «هلك فيه خلق كثير لا يحصون، وخلت الأسواق، وأُغلقت الحوانيت، وارتفعت الأسعار حتى عجز الناس عن القوت».
هنا نلمح المؤرخ الصحفي الذي لا يكتفي بالخبر، بل يرسم صورة كاملة تضع القارئ وسط المشهد.
وإذا وصف أحد السلاطين قال: «كان حسن السيرة في أول أمره، ثم غلبت عليه شهوته فاختل نظام ملكه». عبارة موجزة تحمل تقييمًا تاريخيًا دقيقًا.
حارس الذاكرة
لقد عاش نحو ستة عقود ونصف، شهد خلالها تعاقب سلاطين وتغيّر سياسات وتقلبات عسكرية.
وفي كل ذلك ظل قلمه حاضرًا، يكتب ويسجّل حتى آخر عمره، إلى أن توفي في القاهرة سنة 874هـ/1470م. لكن رحيله لم يوقف صوته، إذ بقيت كتبه حيّة تتناقلها الأجيال، ويعتمد عليها المؤرخون والباحثون في كل عصر.
وحين نتأمل إرثه ندرك أن التاريخ ليس مجرد ماضٍ راكد، بل هو حاضر متجدد. فلو لم يكتب ابن تغري بردي عن مصر المملوكية، لضاع كثير من تفاصيلها، ولما استطعنا أن نرى كيف عاش الناس، وكيف حكم السلاطين، وكيف كانت القاهرة مركز العالم. لقد وعى أن الكلمة قد تكون أبلغ من السيف، وأن المؤرخ قد يهزم النسيان كما يهزم الجندي خصمه في المعركة.
إن قيمة ابن تغري بردي لا تكمن في كونه مؤرخًا مملوكيًا وحسب، بل في كونه صوت مصر الذي لم ينقطع. ففي كتبه نسمع أنين المظلومين، وصخب الأسواق، ووقع حوافر الخيل في المعارك، وضحكات الأطفال في الأعياد، وأصوات المؤذنين في الفجر. لقد حوّل التاريخ من سطور جافة إلى حياة كاملة.
وهكذا يبقى ابن تغري بردي حارس الذاكرة المصرية، المؤرخ الذي لم يجلس على عرشٍ، لكنه شيّد عرشًا أبديًا من الكلمات. هو صوت التاريخ المملوكي، ومعلّم الأجيال، وصاحب القلم الذي لم يخضع لسطوة السيف، فبقي خالدًا في صفحات الثقافة الإسلامية، شاهدًا على عصره، ومعلّمًا للعصور التي تلته.