في تاريخ الإنسانية، ظلّ التجويع أداة قمع وبطش بيد الطغاة، يوجّهونها نحو المستضعفين لانتزاع إرادتهم وتحطيم صمودهم. وإن كان التاريخ قد سجّل حصار شِعب أبي طالب في مكة قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا، فإنه اليوم يسجّل مأساة غزة التي تواجه حصارًا أشد قسوة، حيث يُستعمل الجوع كسلاح إبادة في وضح النهار.
من شِعب أبي طالب إلى حصارات التاريخ
في السنة السابعة من البعثة النبوية، اجتمعت قريش على محاصرة المسلمين في “شِعب أبي طالب”، فحرّمت عليهم البيع والشراء، ومنعت عنهم الطعام والشراب والزواج، حتى أكلوا أوراق الشجر وسمع صراخ الأطفال يتردد في شعاب مكة من شدّة الجوع..
ودام الحصار ثلاث سنوات كاملة، لكنه انتهى بانتصار الصبر والثبات، وبسقوط صحيفة القطيعة الظالمة.
ولم يكن ذلك الحصار الوحيد في التاريخ. ففي حصار لينينغراد (1941–1944) خلال الحرب العالمية الثانية، مات أكثر من مليون إنسان جوعًا وبردًا.
وفي البوسنة والهرسك (1992–1995) استخدم الحصار والتجويع كسلاح إبادة.
وكذلك فعل الاستعمار في إفريقيا والهند، حين ترك الملايين فريسة للجوع والأوبئة.
التاريخ يعلّمنا أن التجويع لم يكن مجرد نتيجة للحروب، بل سلاحًا متعمّدًا لتدمير الشعوب.
غزة.. الحصار الأشد قسوة في القرن الحادي والعشرين
منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023، يعيش أكثر من 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة تحت حصار مطبق.
قُطعت عنهم الكهرباء والوقود، وأُغلقت المعابر، ومُنع إدخال الغذاء والدواء والماء إلا بقدر ضئيل لا يسد رمق الحياة.
تصف الأمم المتحدة ما يحدث بأنه “أسوأ كارثة إنسانية يشهدها العالم المعاصر”.
بينما يؤكد برنامج الغذاء العالمي أن نحو نصف سكان القطاع – أي أكثر من مليون شخص – على بُعد خطوة واحدة من المجاعة.
الجوع هنا لم يعد عرضًا جانبيًا للحرب، بل صار وسيلة متعمّدة من قبل الاحتلال لإخضاع السكان، في خرق فاضح لكل القوانين الدولية.
شهادات حيّة من غزة المحاصرة
تقول ممثلة اليونيسف في فلسطين (2025):
“لم أر في حياتي أطفالًا بهذا الضعف والهزال… أطفال غزة يموتون ببطء بسبب الجوع والعطش.”
أما اللجنة الدولية للصليب الأحمر فصرّحت:
“الطعام في غزة أثمن من الذهب. الأسر تقتسم كسرة خبز واحدة بين ستة أشخاص.”
ونقلت وكالة رويترز عن أم من شمال غزة قولها:
“أطفالي يبكون طوال الليل من الجوع. أحيانًا أضع ماءً مغليًا مع بعض الأعشاب ليظنوا أنه طعام فيناموا.”
وقال طبيب من مستشفى الشفاء:
“لم نعد نواجه فقط إصابات القصف، بل أطفالًا يموتون بين أيدينا بسبب سوء التغذية.”
التجويع كجريمة حرب
تُجرّم اتفاقيات جنيف كل أشكال استهداف المدنيين بالتجويع، وتعتبره جريمة حرب لا تسقط بالتقادم. ومع ذلك، تواصل إسرائيل سياساتها أمام أنظار العالم، مستندة إلى صمت دولي يرقى إلى حدّ التواطؤ.
التجويع اليوم في غزة ليس فقط استهدافًا للشعب الفلسطيني، بل رسالة تهديد لكل أمة تجرؤ على مقاومة الاحتلال.
تاريخ استهداف غزة الفلسطينية عبر العصور
غزة ليست مجرد مدينة ساحلية على شرق البحر المتوسط، بل هي أيقونة للصمود ومفتاحٌ لفهم تاريخ فلسطين والمنطقة كلها. فمنذ آلاف السنين، شكّلت غزة موقعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية، وملتقىً للقوافل التجارية، ومعبرًا بين آسيا وإفريقيا، ومسرحًا للحروب والإمبراطوريات، الأمر الذي جعلها دائمًا هدفًا للقوى الطامعة عبر العصور.
غزة في العصور القديمة
المصريّون القدماء: كانت غزة من أبرز المدن الكنعانية، ثم خضعت للسيطرة المصرية في الدولة الحديثة، باعتبارها قاعدة عسكرية وتجارية متقدمة على طريق «حورس» الحربي.
الآشوريون والبابليون: نظرًا لموقعها الحيوي، تعاقبت عليها الحملات الآشورية والبابليّة، إذ مثّلت غزة مفتاح السيطرة على بلاد الشام.
الفُرس الأخمينيون: جعلوها مركزًا مهمًا لإدارة تجارتهم ونفوذهم في الشام ومصر.
الإغريق: دخلها الإسكندر الأكبر بعد مقاومة باسلة من أهلها عام 332 ق.م، حيث استبسل أهل غزة في الدفاع عنها، فسقط كثير منهم شهداء، وأصبحت منذ ذلك الحين إحدى محطات النفوذ الهلنستي.
غزة في العهد الروماني والبيزنطي
تحولت إلى مركز تجاري وثقافي مهم، لكن المسيحية سرعان ما غيّرت ملامحها مع انتشار الأديرة والكنائس.
شهدت اضطهادًا متكررًا لأهلها بسبب مقاومتهم سلطة روما.
غزة في الفتح الإسلامي
فتحها المسلمون بقيادة عمرو بن العاص سنة 634م، وكانت أول مدينة تُفتح في بلاد الشام.
أصبحت غزة منطلقًا للجيوش الإسلامية، ومنها انطلقت الفتوحات الكبرى باتجاه الشام ومصر.
دُفن في غزة الجدّ الثاني للنبي (صلى الله عليه وسلم) هاشم بن عبد مناف، ومن هنا اكتسبت لقب “غزة هاشم”.، والله أعلم
غزة في العصور الوسطى والصليبية
خلال الحروب الصليبية كانت غزة مسرحًا للمعارك، تتناوب السيطرة عليها بين الصليبيين والمسلمين.
استعادها صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر، وأعاد لها طابعها الإسلامي.
غزة تحت الحكم العثماني
نعمت غزة بالاستقرار النسبي لأربعة قرون (1517–1917).
كانت مركزًا إداريًا مهمًا، وميناءً لتصدير الحبوب والقطن.
غزة في العهد الاستعماري
احتلتها بريطانيا عام 1917م، بعد معارك طاحنة في الحرب العالمية الأولى.
قاوم أهلها المشروع الصهيوني منذ بداياته، وشاركوا في ثورة 1936 الفلسطينية.
غزة بعد النكبة 1948
بعد سقوط معظم فلسطين، أصبحت غزة ملجأً لعشرات آلاف اللاجئين الفلسطينيين.
خضعت للإدارة المصرية، وظلت خط الدفاع الأول ضد المشروع الصهيوني.
في عدوان 1956 احتلتها إسرائيل لعدة أشهر، ثم انسحبت تحت ضغط دولي.
غزة بعد 1967
سقطت تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب يونيو 1967.
تصاعدت المقاومة الفلسطينية من داخل القطاع، لتصبح غزة أيقونة للثورات والانتفاضات.
غزة في العقود الأخيرة
مع انتفاضة 1987، تحولت إلى رمز الانتفاضة الأولى.
بعد اتفاق أوسلو 1994، انسحبت إسرائيل من بعض المناطق، لكن السيطرة الحقيقية بقيت بيدها.
في 2005 أعلنت إسرائيل الانسحاب من داخل القطاع، لكنها أبقت الحصار محكمًا من البحر والجو والبر.
منذ 2007 تعرّضت غزة لحروب متكررة (2008، 2012، 2014، 2021، 2023) أسفرت عن آلاف الشهداء والجرحى، في إطار سياسة التجويع والقصف المستمر، مع حصار خانق يهدف إلى كسر إرادة شعبها.
قلعة المقاومة
غزة عبر العصور كانت دائمًا “الجبهة المتقدمة” لفلسطين، وقلعة المقاومة في وجه الغزاة. لم تكن استهدافاتها نتيجة قوتها العسكرية فقط، بل بسبب موقعها الجغرافي ودورها الرمزي كعاصمة للثبات الفلسطيني. واليوم، كما في الأمس، تظل غزة عنوانًا للصمود والتحدي، ومحورًا للصراع بين مشروع التحرير والمشروع الاستيطاني الاحتلالي.
بين الماضي والحاضر
كما صمد المسلمون في شِعب أبي طالب، وكما صمد سكان لينينغراد، فإن غزة تصمد اليوم، لتكتب فصلاً جديدًا في تاريخ الكرامة الإنسانية.
إنها تواجه قنابل السماء، وحصار الأرض، وسلاح الجوع، لكنها لا تزال على عهدها: لا تنكسر، ولا تستسلم.
ويبقى السؤال الموجّه للأمة الإسلامية وإلى الضمير العالمي:
إلى متى سيبقى الجوع سلاحًا مشرّعًا في وجه الأطفال والنساء؟
وهل سنسمح للتاريخ أن يعيد نفسه في غزة، دون أن نتعلم من دروسه؟
وسبحان ربي القائل: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا..)