1- التاريخ ليس مجرد أخبار تُحكَى، أو وقائع تُروَى، بل هو روح الأمة وذاكرتها الحيّة، ومستودع خبرتها، والركيزة التي تبني بها وعيها بالمستقبل.
2- أمة بلا تاريخ أصيل هي أمة بلا جذور، سرعان ما تذروها رياح التغريب والتيه، ولهذا كانت العناية بكتابة التاريخ الإسلامي في منتهى الأهمية؛ فهي ليست عملية فنية محايدة، وإنما فعل حضاري له أهداف ومقاصد، ووراءه رؤية للعالم والإنسان والحياة.
3- من هنا برز كتاب “منهج كتابة التاريخ الإسلامي” للمؤرّخ الدكتور جمال عبد الهادي، الذي لا يعد مجرد دراسة أكاديمية باردة، بل مشروعًا لتصحيح مسار الوعي، وتأسيس قواعد علمية وشرعية تقي الأمة من الانزلاق وراء مناهج دخيلة شوّهت تاريخها، إما جهلًا وإما عمدًا.
4- يقول الدكتور جمال عبد الهادي في مقدمة كتابه: «إن الذي يكتب التاريخ إنما يكتب وَعي الأمة، ويصوغ ذاكرتها، فإما أن يكون أمينًا فيكتب الحق، وإما أن يكون خائنًا فيزور ويضلل».
5- المؤلف وسيرته:
الدكتور جمال عبد الهادي محمد (رحمه الله)
– وُلدَ في ملّوي بمحافظة المنيا (مصر) في 19 فبراير 1937م.
– حصل على ليسانس الآداب من جامعة القاهرة، وعلى الماجستير والدكتوراة من كلية الآداب بجامعة بروكسل في يونيو 1972م.
– عُيِّن عضوًا في هيئة التدريس بقسم التاريخ كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الملك عبد العزيز في جدَّة من 1973م – 1981م، ثم في قسم التاريخ الإسلامي بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى.
– ألّف عددًا من الموسوعات المهمة، من أبرزها:
أخطاء يجب أن تُصحَّح في التاريخ.
الطريق إلى بيت المقدس.
تاريخ الدولة العثمانية.
فتح مصر.
جزيرة العرب.
إفريقيا التي يراد لها أن تموت جوعا.
الطائفة المنصورة.
منهج كتابة التاريخ الإسلامي.
6- عاصر الدكتور جمال حقبة شهدت محاولات منظمة لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي في ضوء مناهج غربية متأثرة بالاستشراق، ما جعله يعلن مبكرًا أن المعركة الحقيقية ليست فقط على أرض الواقع، بل أيضًا على صفحات الكتب والمناهج، حيث يتشكل وعي الأجيال.
7- ينطلق الدكتور جمال عبد الهادي من فكرة أساسية مفادها أن التاريخ الإسلامي ليس هو التاريخ العام، فالتاريخ بصفة عامة علم يُعنى برصد الأحداث الماضية وتحليلها، لكن التاريخ الإسلامي له خصوصيته؛ إذ يُقرأ ويُفهم في ضوء الوحي.
8- يقول المؤلف: «التاريخ عند المسلمين ليس مجرد سرد للوقائع، بل هو وسيلة للهداية والعِبرة، وهو فرع من فروع العقيدة لأنه يقوم على الإيمان بسنن الله في الأمم والشعوب».
9- فالقرآن الكريم نفسه عرض قصص الأنبياء والأمم السابقة باعتبارها جزءًا من منهج الهداية، ووسيلة للعبرة والاعتبار: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ﴾ [يوسف: 111]،، وبالتالي، فالتاريخ الإسلامي ليس مجرد تسجيل ميكانيكي للوقائع، بل هو قراءة واعية للتجربة البشرية في ضوء السنن الإلهية، وإبراز لدور العقيدة والقيم في صناعة الأحداث.
10- يولي الدكتور جمال عناية خاصة لمسألة المصادر، لأنها الأساس الذي تُبنى عليه كل كتابة تاريخية، ويقرر أن العودة إلى الأصول هي الضمانة الوحيدة لصحة الرواية.
11- مصادر التأريخ عند المؤلف:
أ- القرآن الكريم: الذي يُعدّ المصدر الأول والأوثق، بما فيه من قصص الأمم الماضية، وما سجّله من أحداث السيرة النبوية الكبرى.
ب- السنّة النبوية المطهرة: إذ تسجّل تفاصيل المجتمع الإسلامي الأول، وهي محفوظة بآليات دقيقة للنقد والتمحيص.. يقول المؤلف: «إذا أردنا أن نعرف كيف عاش المسلمون الأوائل، فإن السُّنّة بين أيدينا حية ناطقة، تحفظ دقائق حياتهم».
ج- كُتب المغازي والسّيَر: مثل سيرة ابن إسحاق، ومغازي الواقدي، وسيرة ابن هشام، التي روت الأحداث معتمدة على الأسانيد.
د – كُتب الحديث وشروحها: وهي مصدر لا يُقدّر بثمن، لما تحويه من أخبار تاريخية صحيحة مرتبطة بأحداث السيرة.
هـ – كُتب التراجم والطبقات: التي تعطي صورة متكاملة عن الرجال والأجيال.
12- يحذّر من الاعتماد المفرط على كتب الأخبار المتأخرة، أو على الروايات التي تسرّبت من الإسرائيليات، والقصص الشعبي، ويحذّر من كتابات المستشرقين، يقول: «من الخطأ الفاحش أن يُترك القرآن والسُّنّة، ثم يُستقى التاريخ من بطون كتب مجهولة، أو من أفواه المستشرقين».
13- يقرر المؤلف: «إن الأمة التي ابتكرت عِلم الجرح والتعديل، وأقامت صرح علم الرجال، قادرة أن تنقي تاريخها من كل دخيل».
14- من أبرز معايير النقد التي ذكرها الداعية والمؤرّخ د. جمال عبد الهادي:
– النظر في الإسناد: هل الراوي ثقة أم ضعيف؟ هل السند متصل أم فيه انقطاع؟
– تمحيص المتن: هل يوافق أصول الشرع؟ هل يتعارض مع حقائق التاريخ الثابتة؟
– دراسة القرائن: كالظروف السياسية والاجتماعية التي قد تؤثر في الرواية.
بهذا الأسلوب، يصبح التاريخ الإسلامي علمًا منضبطًا، لا مجال فيه للروايات المفتراة، أو الأخبار الملفقة.
15- نقد مناهج المستشرقين.
يخصص الدكتور جمال فصلاً واسعًا لكشف مناهج المستشرقين الذين درسوا التاريخ الإسلامي. ويكشف أنهم كثيراً ما اتبعوا طرقاً مشبوهة، من أبرزها:
1- التشكيك في صحة المصادر الإسلامية، ولا سيما كتب الحديث.
2- تضخيم الروايات الضعيفة والمهملة، وتقديمها على أنها الحقيقة.
3- التركيز على الصراعات والانقسامات، وإهمال الجانب الحضاري والروحي.
4- تفسير كل شيء بالعوامل المادية البحتة، متجاهلين دور العقيدة والإيمان.
ويقول المؤلف محذرًا: «إن من يقرأ ما كتبه المستشرقون دون وعي ناقد، فإنه يضع نفسه على مائدة مسمومة، قد يُعجَب بشكل الطعام لكنه في الحقيقة قاتل».
16- قواعد عملية لكتابة التاريخ الإسلامي.
يضع المؤلف في ختام كتابه مجموعة من القواعد الذهبية التي يجب أن يلتزم بها كل باحث:
1- الانطلاق من المرجعية الإسلامية: أي جعل القرآن والسنة معيارًا للتفسير والتحليل.
2- الالتزام بالمنهج النقدي الحديثي: فلا تُقبل رواية بلا تمحيص.
3- إبراز الأبعاد الحضارية والروحية، لا الاقتصار على الحروب والسياسة.
4- النظر إلى التاريخ كوحدة متكاملة، تربط بين الماضي والحاضر والمستقبل.
5- تجنب الإسقاطات الأيديولوجية المعاصرة عند قراءة الماضي.
6- الاعتراف بأن كتابة التاريخ مسؤولية حضارية وأخلاقية، لا مجرد عمل علمي جاف.
ويؤكد المؤلف: «ليس الهدف من كتابة التاريخ أن نزيّن الماضي أو نبرّره، بل أن نقرأه قراءة صادقة نستلهم منها الدروس».
17- تكمن أهمية الكتاب في أنه ليس تنظيرًا مجرّدًا، بل برنامج عمل يمكن أن يسير عليه الباحثون في دراساتهم. ولذلك صار مرجعًا معتمدًا في أقسام التاريخ والدراسات الإسلامية.
كما أن المؤلف لم يكتفِ بطرح المنهج، بل طبّقه بنفسه في كتبه الأخرى، مثل دراسته عن التتار، وعن سقوط الأندلس.
18- إن الداعية والمؤرخ د. جمال عبد الهادي من القلائل الذين أعادوا الثقة في إمكانية كتابة تاريخ إسلامي أصيل بعيدًا عن ضغط الاستشراق، وتميّز بقدرته على الجمع بين النقد والتأسيس والتطبيق، فجاء كتابه أكثر شمولًا وقوة.
19- يبقى كتاب “منهج كتابة التاريخ الإسلامي” أكثر من مجرد مرجع أكاديمي؛ إنه صرخة تحذير ووصية جيل إلى الأجيال القادمة، فالتاريخ الإسلامي عند الدكتور جمال ليس “متحفًا للماضي”، بل هو خريطة للنهضة، ومرشد للعمل، ودليل على أن الأمة قادرة أن تستعيد مجدها إذا عرفت جذورها وتمسّكت بمنهجها.
20- يقول د. جمال عبد الهادي في ختام كتابه: «إن الأمة التي تنسى تاريخها كالأعمى الذي فقد ذاكرته، لا يهتدي سبيلاً. فعودوا إلى تاريخكم لتجدوا فيه زاداً للنهضة ووقوداً للمستقبل».
21- إنه الداعيةُ والمؤرِّخ الإسلامي الأصدق: الدكتور جمال عبد الهادي الذي تابعتُه وهو يهزّ منبر مسجد التوحيد بغمرة (امتداد شارع رمسيس بالقاهرة)،، ومساجد أخرى…
ونجحتُ في محاورته من حوالي 24 عاما..
– صوته العذب المبحوح، وابتسامته التي أحفظها، وضحكاته الطفولية المتواصلة عندما قلتُ له: (يا دكتور جمال،،حضرتك جعلت خطبة الجمعة حصة تاريخ)…
– د. جمال وزوجته د. وفاء محمد رفعت، من رموز التأريخ الإسلامي الصادق المخلص في هذا الزمان…
………