يعرب بن قحطان يكتب: الغنوشي وأردوغان

الغنوشي وأردوغان
الغنوشي وأردوغان

 آلمني الحكم على الغنوشي التونسي بعشرين سنة سجنا! وأسأل الله له الفرج العاجل بإذن الله، لكن:

 ما أحسب أن شخصا بذل من الجهد في علمنة الإسلام ومحاولة حشره في قالب الغرب كما فعل الغنوشي وحزب النهضة في تونس.. حتى لقد خطب الغنوشي وكتب في رفع التعارض بين الإسلام والعلمانية.

 ومع هذا التنازل لم يقبل العلمانيون هناك بغير الانسحاق التام لحزب النهضة والانزواء التام سياسيا واجتماعيا.

 الغنوشي أخذ ثورة تونس من يدها فسلمها إلى العلمانيين غنيمة باردة، وبذل ما لا يقبله على نفسه ديمقراطي في العالم كله،

وما ذلك إلا محاولة لإرضاء العلمانيين والدخول في تجربة لا انقلاب فيها ولا معارك شوارع!

واكتفى من الثورة بأدنى ما يطلبه سياسي يمنع نفسه من المنافسة على مقعد الرئاسة وعلى أغلبية البرلمان،

ويقبل فتات وزارة متآكلة آيلة للسقوط في حكومات تضر ولا تنفع!

هكذا حال العلمانيين في بلادنا المنكوبة مع الإسلاميين..

 لا يرضيهم أن يتعلمن الإسلاميون ليشاركوهم في نصيب من السلطة..

بل يجب على الإسلاميين أن يعتنقوا عقيدة إيمانية يرون أنفسهم مجرد خدم وعبيد في هذه البلاد،

ليس لهم أن يفكروا مجرد تفكير في السلطة، إنما مكانهم السجون والقبور والمنافي،

وأن يتعرضوا لمحاكم التفتيش اليومية، لكي تتهذب أفكارهم وتتعلمن، دون أن يفكروا في أنهم حتى ولو تعلمنوا يصلحون لأن يكونوا من فريق السلطة!

التجربة المصرية حاضرة وشاهدة، ومن لم يتعلم منها فلن تؤثر فيه أطنان الكلمات والنصائح..

ولكن الخلاصة البسيطة تقول:

من لم تكن له أنياب ومخالب، ومن لم يتجرأ على الدفاع عن بقائه بكل الوسائل فعليه من الآن أن يبحث عن سكن مناسب في مهجره! فلن تغني عنه كل التهريجات القانونية والزخارف الكلامية!

الغنوشي وأمثاله من العجائز هم حجر عثرة في طريق شباب الإسلاميين والشعوب.

مشكلة الإخوان أنهم يظنون أنهم وحدهم يقرؤون التاريخ، يظنون أنهم سيكررون تجربة أردوغان التركية، ولا يعلمون أن التجربة التي قرأوها قرأها أيضا العسكر وآساد العسكر.

لا أدري من أين أتى الاعتقاد بأن ما قبلته أمريكا من أردوغان قبل عشر سنين ستقبله الآن أيضا من أي رافع لشعاره؟

فأردوغان قديما استطاع أن يتسلل متخفيا وأن يقدم تنازلات حتى وصل، بينما كان الغنوشي سيقضي بقية عمره في لندن لو لم تقم الثورة.

أَردوغان تنازل في سياق نظام يسمح له بالحركة، وتحقق له التنازلات بعض النتائج..بينما الغنوشي ظل طوال عمره يخاطب الهواء والفراغ،

ويكتب أفكارا ما كان لها أن تنبت لولا أن اشتعلت ثورة على غير ما يتوقع الجميع، فهي التي حملته إلى تونس!

أرْدوغان تنازل ليحصد، والغنوشي كان يتنازل مجانا حتى حصد على حين غفلة.

أردوغَان كان كلما اقتنص خطوة لا يعود عنها ولو اهتزت الأرض.

ومنذ تولى أردوغان وهو يسير من تقدم إلى تقدم، لا تزيده الأيام إلا ثباتا وقوة، ولا تستطيع أن ترى له تنازلا سياسيا يهز مكانته أو يضعف من مهابته وموقفه إلا نادرا جدا..

ولا يعني هذا أنه في مأمن ولا أنه استكمل التمكن ولا أنه بعيد عن الخطر، فسيرتنا مع عدونا تخبرنا بأن وسيلة كالاغتيال والانقلاب العسكري ما زالت مطروحة..

بينما الغنوشي سياق آخر مختلف تماما عن أردوغان..

فالغنوشي جاءته ثورة من حيث لا يحتسب فوضعته زعيما شعبيا في تونس بين منافسين، ثورة تقلب المعادلة وتربك الأوضاع،

لحظات فاصلة يستطيع كل قوي وذكي أن يغتنمها فيقفز بنفسه ومكانته وقوته أضعافا مضاعفة..

مراكز القوى متفككة ومهترئة، والنظام القديم بين هارب ومشرد ويبحث عن مأوى ومترقب،

والوضع الدولي في حال أفضل للتفاهم والأخذ والرد (وضع معاكس تماما لأردوغان).

وإذا بالغنوشي منذ وضع قدمه في تونس وهو من تنازل إلى تنازل (وهنا أتحدث عن التنازل السياسي لا الفكري)،

فبرغم الأغلبية الشعبية المستحقة جاء برئيس يساري، اليساري هذا لم يكن لديه أي حياء وهو يعلن “لن توضع الشريعة في الدستور وحاسبوني على هذا”

وهذا في لحظة كان مطلب الشريعة فيها في أعلى ذروته، وكانت حركة النهضة تتمسك به كتمسك حزب النور في مصر بالشريعة أيام مرسي،

ولم يكن اليساري هذا ذا صلاحية، ولا له سلطة على اللجنة التأسيسية أصلا. الرجل لم يعبأ بمن تنازلوا له.

ومن رئيس يساري إلى حكومة أولى إلى حكومة ثانية ثم إلى حكومة تكنوقراط (حكومة علمانية لكنها ارتدت ثياب المتخصصين)..

فتنازل عن منصب الرئيس، ثم استقالة حكومة وتخفيض الإسلاميين فيها، ثم عن الثانية، حتى جاءت حكومة الأقلية فيها إسلامية!

«وكأن ثورة لم تقم وكأن نظاما لم يسقط»!

خان الغنوشي الإرادة الشعبية وباعها ليشتري بها رضا النخبة، وبعدما جاءت به الثورة زعيما شعبيا من حيث لا يحتسب عاد هو بنفسه إلى مقاعد المعارضة «حفاظا على الثورة».. أي ثورة؟!

تماما كالطبيب الذي ضحى بحياة الأم والجنين لكي تنجح العملية!!

ما فائدة الثورة إذا لم تُمكّن للشعب؟! والشعب قد عبر عن هويته الإسلامية في اختياراته الحرة؟!

وهنا يبدو الفارق واضحا بين الغنوشي وأردوغان، هذا بدأ قويا وما زال يتقهقر. وهذا بدأ ضعيفا وما زال يقوى؟!

أردوغان لم يكن يضيع وقته في حوارات الأحزاب..

تلك الحوارات الخرقاء التي لا تنتهي ولا تثمر، ولا تسمن ولا تغني من جوع..

أردوغان تنازل أمام من يملك المفاتيح: الغرب والأمريكان،

وكان في نفس اللحظة يضرب الدولة العميقة بأعنف ما يمكنه لكي يكون الممثل الوحيد لتركيا أمام أي جهة،

وهذا حق أي حاكم منتخب. فأصبحت مسائل القبض على تنظيمات الدولة العميقة

وإحالة قادة في الجيش والأجهزة الأمنية والقضاء والإعلام للتقاعد والتحقيق والمحاكمات – صارت أخبارا مطروقة نسمعها كل يوم.

بينما الغنوشي يمدّ خصومه بالدماء ليواصلوا الحياة، لا بل ليواصلوا التضخم وسحقه هو، فيعطيهم ما لا حق لهم فيه لا بالديمقراطية ولا بالمنطق ولا بالفطرة.. من أجل التوافق، وللحفاظ على الثورة!

وبينما يضرب أردوغان النظام القديم، لم ينشغل الغنوشي بضرب النظام القديم -وهو في أضعف حالاته بعد الثورة- فعاد وتجدد وترسخ مكانه.

فمن الذي يتنازل؟ ومن الذي يتقدم؟!

ومن ذا يسوي بين أردوغان والغنوشي..

إنما مثلهما كمثل الرجل العصامي الذي حفر في الصخر حتى بنى كيانه فتحمل وهو يبني بعض العنت والإهانات واضطر لبعض التنازلات والصفقات حتى وصل،

كيف يستوي مع رجل جاءه خبر على حين غفلة بأنه الوريث الوحيد لقريب ثري، فما إن جاءه الكيان حتى صار يوزعه على خصومه كي يتجنب غضبهم باسم المحافظة عليه..

وقريبا يطردونه ولن يجد من يبكي على مثاليته وأخلاقه؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights