نظرة لنص التقرير المفاجئ الصادر قبل أيام عن صندوق النقد الدولي، ويتعلق بنتائج المراجعة الثالثة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري التي جرت نهاية شهر يوليو الماضي، تصل إلى نتيجة هي أن الصندوق يحاول أن يكون وصياً على مصر بل ومندوباً سامياً، وأنه بات يعمل وبكل الطرق على فرض شروطه وإملاءاته على الملأ دون مراعاة للأمن القومي الاقتصادي المصري والنسيج الاجتماعي.
ودون النظر قبلها لأحوال المصريين الصعبة والظروف بالغة القسوة التي يمرون بها، ودون النظر أيضا حتى للظروف الصعبة التي يمر بها الاقتصاد سواء بسبب حرب غزة وزيادة المخاطر الجيوسياسية في المنطقة واضطرابات البحر الأحمر، أو لأسباب محلية تتعلق بتفاقم التضخم وركود الأسواق وتراجع موارد الدولة من قناة السويس وغيرها من الأنشطة الحيوية.
فكل ما يهم تلك المؤسسة المالية الدولية الجشعة بالدرجة الأولى هو استعادة أموالها وأسعار الفائدة المستحقة عليها، والحرص على زيادة موارد الدولة المصرية، ليس بهدف تحسين مستوى معيشة الفرد ومحاصرة الغلاء الجامح، ولكن لضمان سداد أموال الصندوق ومستحقات الدائنين الدوليين الأخرين في موعدها بلا تأخير.
ونظرة لمطالب الصندوق من الحكومة والواردة في التقرير الأخير تلحظ أنه بات يحدد العديد من أوجه الإنفاق ومخصصات الموازنة العامة، وأنه راغب في دس أنفه في مؤسسات بالغة الحساسية مثل البنك المركزي المصري والجهاز المركزي للمحاسبات ووزارة المالية، وأنه يصر على إلغاء الدعم الممنوح لمشتقات الوقود من بنزين وسولار بغض النظر عن تأثير هذه الخطوة الخطير على معيشة المصريين والأنشطة الاقتصادية المختلفة، وأنه يصر كذلك على إسراع الحكومة في بيع أصول الدولة وتجريف الموازنة من مورد سنوي مهم بل وشرعنة هذا الإجراء الخطير.
ويصر الصندوق أيضا على مطلب زيادة الإيرادات الضريبة وتوسيع دائرة الخاضعين لضريبة القيمة المضافة وإلغاء الاستثناءات، ومطالبة الحكومة بالإسراع في سداد المتأخرات المستحقة لشركات النفط العالمية والبالغة 5 مليارات دولار، وفتح الأسواق أمام استيراد السلع حتى لو كانت غير ضرورية وتشكل ضغطا شديدا على العملة المحلية وسوق الصرف والاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي. أيضا التأكيد على التزام الحكومة المستمر بنظام مرن لسعر صرف أجنبي متحرر، أي تعويم الجنيه كلما اقتضت الحاجة، بزعم تجنب الاختلالات الخارجية في المستقبل.
صحيح أن الصندوق أعلن عن تخفيف عدة شروط تتعلق بحزمة الدعم المالي البالغة 8 مليارات دولار، بما في ذلك السماح بمزيد من الوقت لتنفيذ الإصلاحات كما جاء في الوثيقة الصادرة عنه قبل أيام.
ومن بين تلك التخفيفات عدم إلزام الحكومة بإجراء زيادات دورية في سعر الوقود كل 3 شهور كما كان يجري في السنوات الماضية، لكنه في المقابل ألزمها بتحرير سعر الوقود ووقف دعم مشتقات الطاقة وبيع السعر وفقا للتكلفة العالمية قبل نهاية العام المقبل.
وهذا الاتفاق لا يختلف كثيرا عن الوثيقة التي أظهرت تقديم الحكومة تعهدات لمجلس إدارة الصندوق، برفع أسعار البنزين والسولار، لتصل إلى مستوى التكلفة، ووقف الدعم تماماً لكافة المنتجات البترولية بنهاية العام 2025.
كما تعهدت الحكومة أيضا الالتزام بخفض الدعم عن السلع التموينية، وزيادة الوعاء الضريبي، الذي يخضع له نحو 22% من المصريين، والتوجه نحو الدعم العيني، وبدء التطبيق عام 2025، بما يعني حذف الملايين ممن يحصلون على الخبز المدعم والسلع التموينية، وزيادة سعر رغيف الخبز.
أيضا تكشف الوثيقة عن تدخل الصندوق الصارخ في أهم مؤسستين رقابيتين في الدولة، فقد طلب تعديل القانون الذي يحكم عمل الجهاز المركزي للمحاسبات، والالتزام بنشر عمليات التدقيق السنوية على الحسابات المالية التي يصدرها الجهاز.
ورصدت الوثيقة اعتراض الصندوق على عدم رسملة البنك المركزي بطريقة متكاملة وفعالة، تنتهي في أغسطس الماضي، وعدم التزامه بنشر تقرير التدقيق المركزي لحساباته، وخطة إعادة الرسملة، وطالب بمشاركته البنك المركزي في اختيار شركة دولية تتولى إجراء تقييم مستقل للسياسات والإجراءات والضوابط الخاصة بالبنوك المملوكة للدولة، وهو ما يعني دس أنفه في قطاع بالغ الحساسية هو البنوك.
هذا جزء مما جاء في تقرير صندوق النقد الدولي الأخير، فهل تستجيب الحكومة لكل تلك المطالب وتجعل منه مندوبا ساميا على موازنة مصر كما جرى أيام الخديوي إسماعيل؟
في ظل تلك الوصاية التي يحاول صندوق النقد فرضها وترسيخها على أرض الواقع فإن السؤال المطروح: متى تقول حكومة مصر لصندوق النقد بالصوت العالي: لا للوصاية والشروط المجحفة بحق المواطن والأسواق والاقتصاد والأمن القومي؟