بحوث ودراسات

د. عبد الرحمن بشير يكتب: تأملات في العيد والشريعة

احتفلت الأمة المسلمة بمناسبة عيد الأضحى المبارك، ويصادف في يوم الأربعاء القادم العاشر من شهر ذي الحجة لعام ١٤٤٤هـ، والموافق في الثامن والعشرين من شهر يونيو لعام ٢٠٢٣م، والمسلمون يتذكرون في هذا اليوم العظيم أمرين جليلين، وهما:

١- اكتمال الشريعة الإسلامية، ونزول قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتى، ورضيت لكم الإسلام دينا)، ففي مثل هذا اليوم اكتملت الشريعة، وأتم الله على الأمة نعمته، ورضي لها الإسلام دينا، ومنذ ذلك اليوم، فالأمة لا تحتاج إلى قانون أرضي، أو فكر وضعي، لأنها تملك شريعة ربانية، وإنسانية، وعالمية.

٢- الخطبة الجامعة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في يوم النحر حين قرّر الحقوق العامة للإنسان قبل أن تتوصل إلى بعضها البشرية قبل اثنتي عشر قرنا، أي قبل الثورة الفرنسية، وقبل كل الثورات البشرية.

يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين):

فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح العباد فى المعاش والمعاد وهي: عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل.

تعتبر الشريعة الإسلامية الحل الأوحد للبشرية فى مشكلاتها الفكرية والتصورية، وفى مصائبها السياسية والاجتماعية، ولكن قبل ذلك يحتاج المسلمون إلى فهم صحيح لها قبل دعوة الناس إليها، والفهم الصحيح مطلوب شرعا، وواقعا ولهذا وضع الإمام البخاري رحمه الله كتاب (العلم قبل القول والعمل)، ودعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه موسى الأشعري إلى الفهم قبل العمل، أو الحكم، وذكر البنا رحمه الله في أصول العشرين بندا مهما وهو  فهم الإسلام فهما معتدلا وشاملا شمول الحياة، وقبل ذلك كله دعا الإسلام في نصوصه العامة والخاصة إلى العلم والفهم قبل التطبيق، لأن الفهم السليم يؤدى إلى تطبيق سليم، والفهم المعلول يؤدى إلى تطبيق معتل، ومن أعظم ما يجب فهمه فى هذه اللحظات هو مقاصد الشريعة، وحفظ مصالح العباد، والدين نزل لأجل الناس، وليس لأجل أمر آخر.

يقول العز بن عبد السلام رحمه الله فى كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام):

إن الشريعة كلها مصالح، إما درء مفاسد، وإما جلب مصالح. وإلى ذلك يؤكد ابن تيمية رحمه الله فى كتابه (منهاج السنة): إن الشريعة الإسلامية جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وهذا الأمر يعتبر عند علماء الشريعة محل إجماع، فقال صاحب (الموافقات): إنها أي الشريعة وضعت لمصالح العباد، ولكن بعض الناس فى هذا الزمن لا يعرفون قيمة الشريعة لسببين رئيسين:

أولا: انتشار الغزو الفكري، والتضليل الثقافي، ومحاربة الدين في داخل صفوف الأمة، ومن هنا ظهر في الأمة جيل غير منتم إليها فكريا، وتم تدريبه في معاقل العدو الفكري والسياسي، ولكنه ينتمي إليها جغرافيا وسياسيا، فهو يمثل طابورا خامسا في الداخل ويهدم مقومات الأمة عن جهل.

ثانيا: وجود طائفة من أهل العلم، يتناولون المسائل  ظاهريا، ويبتعدون عن روح الشريعة، ومقاصدها، فلا يدرسون تعليل الأحكام بالمصالح الدنيوية أو الأخروية، كما لا يلاحظون في قراءاتهم مسألة رفع الحرج والضرر، وتشريع الرخص عند المشقات، ولا يدرسون قواعد الفقه، ذلك العلم العظيم الذي أسسه علماء الشريعة من جميع المذاهب الفقهية، ويعتبر ثروة قانونية لا تضاهيها ثروة أخرى عند الأمم الأخرى.

إن دراسة المقاصد، والقواعد مهمة لتحسين الفهم عن الله، ومن هنا جعل الإمام السبكي رحمه الله الإحاطة بمعظم قواعد الشرع شرطا مستقلا للمجتهد، بحيث يكتسب بها قوة يفهم بها مقصود الشارع، ومن أعظم القواعد الفقهية فى شريعتنا الغراء  (الضر يزال)، و (المشقة تجلب التيسير)، وغيرهما من القواعد الكبرى والمتفرعة منها، وهي كثيرة جدا، وتمنح الباحث عقلا فقهيا وقانونيا.

من أعظم مباحث الشريعة، مبحث (التعليل)، وهو يعنى الكشف عن عِلَل  الأحكام وبيانها، والعلة لا تعنى فقط كما هو عند علماء الفقه: العلامة الصورية الظاهرة المنضبطة، وهي كما هو معلوم في علم أصول الفقه مظنة الحكم القياسي الجزئي، ولكن تعنى عند فقهاءنا المتقدمين كما لاحظ الريسوني في دراساته العميقة للمقاصد: الحكم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر والإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي، أي: الحكمة والمصلحة التي لأجل رعايتها وتحقيقها وضع الحكم.

إن النصوص تقطع بتعليل الأحكام، وحتى البعثة النبوية معللة، فقال تعالى (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)، والحكمة من خلق البشر معللة، ويقول سبحانه (الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، وإنزال الأحكام الشرعية معللة، ويقول سبحانه (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم)، وكل ذلك يشير إلى معنى هام فى عقل الفقيه، وهو أن التعليل فى الأحكام، وفى الشرع أصيل.

يذكر الريسوني المقاصدي في مقال له في مجلة الفرقان المغربية بأن الشارع علّل لماذا أرسل نبيه محمدا عليه  الصلاة والسلام في سورة الشورى حيث يقول: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم) ثم يقرر الريسوني بأن مقاصد الرسالة المحمدية وفق هذه الآية جمعت في كلمات هي:

> الاستقامة.

> التحرر من الأهواء.

> العدل بين الناس.

نحن نحتاج إلى إعادة القراءة من جديد وفق منهجية مقاصدية لأجل صناعة فهم صحيح لدين الله، ونفهم أن الشريعة جاءت لمصالح الناس، وأنها مفهومة ومعقولة المعنى، ومعلولة من حيث الأصل، وذكر علماؤنا رحمهم الله أن الأصل في الأحكام المعقولية لا التعبّد، وقد لا يفقه ذلك أغلب الدارسين، ولكن عدم فهمهم لا يعنى عدم وجود التعليل والتعقل في الدين، ولهذا ذكر الحكيم الترمذي رحمه الله أن (عللها قائمة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، بل قال ابن القيم، العالم السلفي رحمه الله:  ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة، يعقله  من عقله، ويخفى على من خفي عليه.

فى هذا العيد المبارك، نحتفل بتمام الشريعة، ومن هنا يجب أن نعيد قراءتها من جديد، فهي شريعة تتجاوز الزمان والمكان، ولا تتخلف عن الركب الحضاري، فليس بها مشكلة، فالمشكلة عند من يحملها من الناس، ومن هنا وجد الباحثون والمحققون كما كتب الشيخ  يوسف القرضاوي رحمه الله بأن من خصائص هذه الشريعة، الربانية، والإنسانية، والشمول، والتوازن والوسطية، والواقعية، والجمع بين الثبات والمرونة.

كل عام وأنتم بخير، وكل سنة والأمة تقترب إلى الشريعة فهما وتطبيقا.

د. عبد الرحمن بشير

داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى