كانت ليلة الخميس (١٣ من رجب ١٤٤٥ھ – ٢٤ من يناير ٢٠٢٤م) من أجمل ليالي حياتي، وأحفلها بالمسرات والمباهج، حيث حضرت مأدبة عشاء فاخرة، أقامها الإخوة الأعزة من بهتكل (من طلاب قسم الدراسات العليا بندوة العلماء) تكريما لأساتذتهم.
لقد شاركت في مآدب كثيرة في حياتي، ولكن هذه المائدة البهتكلية الطلابية كانت لها متعة خاصة، ونكهة متميزة، فاقت بها كثيرا من المآدب، التي تيسر لي حضورها في مناسبات عديدة عبر مسيرة الحياة.
كانت المأدبة غنية بكل ما لذ وطاب من الوجبات البهتكلية اللذيذة التي كنت أسمع عنها منذ زمان، ولأول مرة كنت أجربها.. وكانت تجربة ناجحة ممتعة.. الحقيقة أن المأدبة كانت أشبه بالمآدب العربية منها بالهندية، فالذي سبق له حضور الولائم والمآدب في البلدان العربية، كان يشعر كأن هذه المأدبة العشائية البهتكلية تكاد تكون نسخة طبق الأصل لشقيقاتها من الولائم العربية، فمن بداية المأدبة إلى نهايتها كانت تغشاها مميزات الولائم العربية.
ولكن الشيء الذي حصد إعجاب كل من حضر هذه المأدبة ولفت انتباهه هو الروح السامية التي كان يتشبع بها الإخوة الطلاب المنظمون للمأدبة، روح الحب والاحترام والخدمة للأساتذة، فكأنّ كل طالب كان يحرص على أن يسبق زميله في تقديم أفضل خدمة لكل من حضر من الأساتذة، والإخوةُ الأساتذة البهتكليون الكرام مثل الشيخ فيصل أحمد الندوي والشيخ عبد السلام خطيب الندوي وغيرهم كانوا يشرفون على الطلاب إشرافا يقظا مشرّفا، ويوجهونهم بكل ما من شأنه تقديم آخر درجة من الرعاية والعناية والخدمة ما لا يُشعر أحدا من المدعوين بما تحَسّ منه رائحة من التقصير أو التكاسل في القيام بالواجب، وهكذا كان .. فالجميع كانوا يثنون على روعة النظام ومثالية الخدمة والروح العالية التي كانت تسود كل فرد من طاقم التنظيم والإعداد للمأدبة.
كما كانت المأدبة فرصة طيبة للاجتماع بالإخوة الأحبة والتحادث معهم والأنس بهم، ومحادثة الإخوان وتجاذب أطراف الحديث معهم مما لا تشبع منه النفوس، بل تحن إليه دائما وأبدا.. كما كان قال عبد الملك بن مروان لبعض جلسائه: «قد قضيت الوطر من كل شيء إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزهر، على التلال العفر».
وأحسن من هذا ما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله، قال: «والله إني لأشتري [المحادثة] من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بألف دينار من بيت مال المسلمين، فقيل يا أمير المؤمنين! أتقول هذا مع تحرّيك وشدة تحفظك وتنزهك؟ فقال: أين يُذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف دنانير، إن في المحادثة تلقيحا للعقول، وترويحا للقلب، وتسريحا للهم، وتنقيحا للأدب». (الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي ١/ ٢٦).
هذا. وغني عن القول إن طلاب بهتكل يُعرفون من قديم، بصفات تخصهم، إنهم يُعرفون بشاراتهم المميزة وخصائصهم التربوية من الصلاح والتدين، والالتزام بالآداب الإسلامية، والمواظبة على الصلاة مع الجماعة، والحرص على تلقي العلم في جد واهتمام، ودماثة في الخلق، ولطف في التعامل، كما يُعرفون بوجوههم الوضاءة النيرة المشرقة بالإيمان، وملابسهم البيضاء الصافية النظيفة نظافة يحرص عليها الإسلام.
جزى الله إخوتنا البهتكليين النبلاء خير الجزاء على حسن ضيافتهم وجميل كرمهم، وعلى إتاحتهم الفرصة للالتقاء بالإخوة الأحبة إلينا، والأعزة علينا، ووفقهم وجميع طلاب الندوة لما يحب ويرضى، وجعلهم من طلائع الإسلام، الذين تتطلع إليهم الأمة لاسترداد مجدها التليد وعزها السالف.
وحفظ للندوة أفراحها ومسراتها، وحفظ فيها -دائما- هذا الجوَّ المغبوط.. جو الحب والوئام، والتصافي والاحترام، وحفظها من كل سوء وشر، وأبقاها حصنا حصينا للعلم والدين، يرابط على ثغور الإسلام، ويذب عنها، ويصونها من كيد الكائدين، وينفي عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وبارك الله في حياة راعي المسيرة الندوية العالمية المباركة، معالي رئيس ندوة العلماء الشيخ الشريف بلال عبد الحي الحسني الندوي، ومتعه دائما بالصحة والعافية، وأبقاه ذخرا للإسلام والمسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(الجمعة: ١٤ من رجب ١٤٤٥ھ – ٢٦ من يناير ٢٠٢٤م).