مقالات

على مائدة العلم والأدب: بين أحلام اليقظة وأضغاث المنام

محمد نعمان الدين الندوي

رحم الله أستاذنا الجليل الشيخ واضح رشيد الحسني الندوي رحمه الله رحمة خاصة، فقد كان أستاذًا مثاليًّا بمعنى الكلمة.. أستاذًا لم أر مثله حريصًا على تنمية مواهب الطلاب وإبراز ملكاتهم، وصقل صلاحياتهم، وحثهم على اكتشافِهم لأنفسِهم هُم.. لأن اكتشاف الإنسان لما حباه الله به من: «صلاحية خاصة» و«قدرة متميزة»، حجرُ الأساس أو اللبنة الأولى في بناء الشخصية، وتكوينِ الذات، وطريقِ الصعود إلى ما يتوخاه الإنسان من المجد والرفعة.

 فكان – رحمه الله – يتفنن في ذلك.. ويبتكر أساليب ومناهج طريفة مفيدة، تصب كلها في نفعِ الشباب والطلاب، ودَفعِهِم إلى الجِدّ والعمل، وتفعيلِ قدراتهم، وتحريكِ أذهانهم، وتنشيطِ عقولهم، وتفجيرِ قرائحهم، وتعويدِهِم على التفكير والتأمل والنظر، وإحداثِ التنافس والتسابق فيما بينهم.. فبدون التنافس لا يمكن السبق والتقدم، وقد رغّب القرآن الكريم – أيضًا – في المبادرة إلى الخير: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.

«والدنيا دار سباق إلى المعالي، فينبغي لذي الهمة أن لا يقصر في شوطه، فإن سبق فهو المقصود، وإن كبا جواده مع اجتهاد لم يلم» (ابن الجوزي: صيد الخاطر ٤٥٦).

وكما تنسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلمة تفيد الإشادة بالسبق والمسابقة، وتندب إليها: «يسعد الله بسبقه من يشاء من خلقه».

ومن هنا.. كان أستاذنا واضح الندوي يجعل الطلاب يتنافسون ويتسابقون مساهمين في فنون وألوان من المناشط الثقافية، محاولين -بجدية واهتمام- إحرازَ قصَب السبق في حلبات رهانهم وساحات معاركهم التدريبية من الخطابة والكتابة وما إليها..

ومن ذلك أنه كان يعطينا – من حين لآخر – عنوانًا في حصة التمرين على الإنشاء، تدريبًا لنا على الكتابة في موضوعات مختلفة في جانب، وتقديرًا لقدراتنا وملكاتنا، واستطلاعًا لمطامحنا وآمالنا في المستقبل في جانب آخر..

فمما أذكر -بهذا الصدد- أنه طالبنا -وكنا ندرس في السنة الثالثة من العالية- ذات مرة، بأن نكتب مقالًا حول الموضوع: «أحلام اليقظة»، وقال -مُعرّفًا بالموضوع-: «المراد بـ: «أحلام اليقظة».. تلك الأماني التي يتمناها الإنسان، والأهدافُ التي يريد أن يصيبها، والآمالُ التي يرجو تحققها في المستقبل، مؤكدًا على أن كل إنسان يتمتع بشيء من العقل والشعور والطموح، تكون له آمالٌ يأملها، وأمانٍ يتمناها، وأهدافٌ يصبو إليها، وهذه الآمال والأهداف تختلف باختلاف البيئة التي ينشأ فيها الإنسان، أو التربية التي يتلقاها، وأنتم يا طلبة العلم لا شك أن لكم أهدافًا تقصدونها، وآمالًا تريدونها شيئًا واقعًا في قابل الأيام، والمفروض أن تكون أهدافكم عظيمة، وآمالكم كبيرة..، لأنكم ما فارقتم وطنكم وأهلكم وإخوانكم ومعارفكم وجميع ما كنتم تألفونه، إلا لمقاصد جليلة.. فما هي؟ وليكتب كل واحد منكم عن آماله الحقيقية.. أي ماذا يريد أن يكون في المستقبل؟». وبشرنا بأنه سيعطي صاحبَ أحسنِ الجواب – من زملاء الصف – جائزةً تشجيعيةً..

فكتب كل منا عن آماله وطموحاته المستقبلية، والحقيقة أنا لا أذكر – بالضبط – ما كتبت حول الموضوع، لأنه قد مضى على ذلك نحو ٤٥ سنة.

على كل.. قدّمنا دفاترنا إلى أستاذنا الجليل الشيخ واضح رشيد الحسني الندوي رحمه الله، وبعد ما امتحنها واطلع على ما كتبنا فيها ما كتبنا.. أبدى ابتهاجه البالغ بإراداتنا وآمالنا وطموحاتنا.. ثم قال: كلكم أحسنَ وأجاد.. وكلكم جدير بالإشادة وأهلٌ للتقدير والثناء..، إلا أن هناك ثلاثة طلاب من الصف، أعجبني جوابهم كثيرًا، وأرى كل واحد منهم مستحقًا للجائزة، وأنا أحار فيمن أختار واحدًا منهم للجائزة، ولا أكاد أحكم بينهم حكمًا فاصلًا.. فلا أدري كيف أفضل أحدًا منهم على زميليه..

فأرى -حسمًا للقضية، وشرحًا لصدري- أن أقترع بين الثلاثة.. فمن تعيًن اسمه، وفاز بالقرعة، يستحق الجائزة..

وهكذا كان.. فأجرى القرعة في الثلاثة من الزملاء.. وأعطى الجائزة لمن نجح في القرعة..

ولعله من المناسب أن أبوح بأسماء الثلاثة، فكان أحدهم -وهو الفائز بالجائزة- الأستاذ قيصر حسين الندوي أستاذ التفسير والأدب بندوة العلماء، والثاني المفتي محمد طارق الندوي -أستاذ بالندوة سابقًا- الذي انتقل إلى رحمة الله في مكة المكرمة بعد أن تشرف بالحج، والثالث كاتب السطور..

فهكذا كان أستاذنا الجليل الحبيب الشيخ واضح رشيد يستنهض عزائمنا، ويوقظ هممنا، ويستكشف قدراتنا، ويجليها ويصقلها، فيدفعنا إلى الأمام، وينشئ فينا الطموح، والتوقَ إلى المعالي، والصعودَ إلى القمة.

رحمه الله وجميع أساتذتنا، الذين ما قصروا في تعليمنا وتربيتنا، وجزاهم خيرًا.

* * *

هذا. فلا بد من أحلام اليقظة/ النهار.. ولا اعتبار بأحلام النوم / الليل.. فإنها أضغاث مضطربة متداخلة.. وصدى لما قد مرّ به الإنسان في نهاره من الأحداث..

والشخصية لا تتكون إلا بأحلام النهار / اليقظة..

والمراد بـ: «أحلام اليقظة»: التخطيط الواعي الدقيق للمستقبل..

فكما يقال: النجاح في التخطيط هو التخطيط للنجاح..

ثم التخطيط وحده لا يسمن ولا يغني من جوع.. ما لم يكن وراءه رصيدٌ -يُعتَدُّ به- من العزم الراسخ والإرادة القوية والجِدّ المتواصل لتحويل التخطيط واقعًا حيًّا يعيشه صاحب التخطيط..

فمجرد التمني، أو التخطيط الفارغ -الذي ليس له سند من العزم، والعمل الدؤوب، والصبر على الشدائد- لا يوصل إلى المطلوب..

بل لا بد من ترجمة التمني إلى الواقع بالجد والعمل والهمة..

ومن رزق همة عالية، يعذب بمقدار علوها..

لحا الله ذي الدنيا مُناخًا لراكبٍ

فكل بعيد الهم فيها مُعذّبُ

وإذا كانت النفوس كبارًا

تعبت في مرادها الأجسام

 * * *

ولا بد للفتى من غاية يسعى إليها، وأرب يطمع فيه..

لكل امرئ غرض يسعى ليدركه

والحر يجعل إحراز العلا غرضه

ولا يتصور من إنسان -ذي العقل والشعور- أن يقضي حياته دون أن تكون له آمال و أهداف يتوق إلى تحقيقها..

والحيوانات والبهائم هي التي تعيش بلا آمال وأهداف.. فلا هم لها إلا ما يشبع بطنها ويطفئ غلتها..

أما الإنسان.. فله آمال وأهداف.. أما المسلم.. فله آمال أسمى.. أما طالب العلم النبوي.. فالمفروض أن تكون طموحاته أجلَّ وأرفع من الجميع.. لأنه وارث مهمة النبوة.. وما أعظمها من مهمة.. وما أكرمه من وارث..

فلا بد أن تكون آماله وطموحاته وفق ما قال المتنبي: «ما أبتغي جل أن يسمى».

فكن رجُلًا رِجْلُه في الثرى

وهامةُ همّتِه في الثريّا

والعظائم كفؤها العظام..

أيها الطالب! اعرف جلالة قدرك، وعظمة مهمتك، وكن ناصحًا لنفسك، صادقًا في طلبك، فالصدق في الطلب مفتاح النجاح في المقصد كما قال الخطابي: «من صدقت حاجته إلى شيء، كثرت مسألته عنه، ودام طلبه له، حتى يدركه ويحكمه» (معالم السنن ١٣٢/٤، نقلًا من القواعد الفقهية للدكتور علي أحمد الندوي، صـ: ٥، ط: الرابعة).

ومما ينفعك، ويجعلك ناجحًا موفقًا في مستقبلك، أن تضعَ نَصبَ عينِك ما يلي:

٠ لا تبرز نفسك قبل النضج

٠كن صبورًا.. وإياك واليأس

٠خذ كل فن من أهله

٠اغتنم رياح العمر

٠كن واعيًا، ولا تكن حاكيًا

٠ابدأ بالأهم

وفقك الله وسدد خطاك، ونفع بك.

(ليلة الأحد: ١٦ من ربيع الثاني ١٤٤٦ھ – ١٩ من أكتوبر ٢٠٢٤م).

محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *