كان قرار فتح مكة قراراً ملهماً من القيادة النبوية الجريئة والشجاعة، لم يكن قراراً متوقعاً إذ لم يمض عامان فحسب على صلح الحديبية الذي بموجبه يأمن الناس عشر سنين.
والمتأمل في قرار الحرب وتكتيكات المعارك يرى أن هناك قدراً من حرية القرار لرسول الله ﷺ، نعم هي قرارات مؤيدة بالتوفيق والإلهام الرباني؛ إلا أنه من الواضح أن الأمر متروك للنبي ﷺ، ثم يوافقه قدر الله وهو من قدره.
ففي غزوة بدر استشار أصحابه في موقع الجيش وأخبرهم أنه الرأي والحرب والمكيدة، وفي غزوة أحد يعلمنا مضاء العزمات بعدما رجع إليه من استخرجوه من المدينة لظنهم أنهم قد استكرهوه، فأبى العودة للتحصن بالمدينة كرأيه الأول بعدما قضى بخروج الجيش للقاء المشركين، وكذا هو الحال هنا في غزوة الفتح فقد اتخذ قرار الشهامة والنصرة لعمرو بن سالم صريخ خزاعة.
إن أي قرار قيادي جريء على هذا المستوى له خطورته وله تبعاته ومسؤولياته التي تتحملها -أول ما تتحمل- القيادة وحدها، وقد يصيب وقد يخطئ، وقد تكون الهزيمة الجزئية أو الشاملة هي إحدى النتائج المتوقعة.
وقس على هذا قراراً كإطلاق الطوفان الرهيب المجيد، أو قرار اجتياح سوريا من حلب إلى حمص إلى اقتحام دمشق، فكل النتائج كانت محتملة ولم تغب عن حس ووعي القيادة ألبته، وكان من الممكن أن تفشل الحركة السورية أو يعود الأمر عليها بدمار وخسائر مروعة؛ وكنا ساعتها سننحو على القيادة باللائمة، ولن نمجدها كما نفعل اليوم.
إن قرار الحرب هو قرار يتخذ في عقل القائد، ومعاركها هي وقائع مؤلمة تعيشها القيادة مئات المرات قبل أن تتخذ القرار، ومنازعات العقل القيادي السابق لغيره بين شجاعة الإقدام والسبق في إداراك اللحظة، وبين وعيه التام لكافة الاحتمالات وردود الفعل المحتملة، بل ونقاط الضعف في صفه والتي يدركها أكثر من غيره، وقد يدركها العدو أيضاً.
كل هذه الضغوط والمفاهيم تجعل من هذا القرار هو بطولة في حد ذاته ولا ينبغي أن يحاكم بمعايير الحاضر وإنما بخصوصيات الظرف في الماضي، أو بالنتائج البعيدة في المستقبل، كما ينبغي أن يوضع في الاعتبار الحسابات القدرية، والخيانات والانكسارات المفاجئة، وذلك كله قبل الوصول إلى حكم كامل وصحيح بخطأ القيادة أو صوابها.
فقرار كالمقاومة كفكرة مجردة في واقع كالواقع الفلسطيني هو قرار يبدو جنونياً، فضلاً عن محاولات امتلاك وتهريب وتصنيع السلاح، وتجنيد الأفراد في ظل كل الصعوبات والتفوق اللامتناهي لأدوات العدو وإمكاناته.
وإلى نفس هذه المعايير ينبغي أن يحاكم قرار كقرار الطوفان أو غيره، فالأمر كله لا يعتمد على التكافؤ بقدر ما يعتمد على صراع الإرادات، ومفهوم الحق، والاندفاع الجازم الذي لا يعترف بالحسابات، بله بالقدر والمعية الربانية والوعد الصادق.