بحسب بيانات صادرة عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فإن الدول النامية تدفع منذ عام 2020 عوائد على سنداتها تتراوح بين ضعفي إلى أربعة أضعاف ما تدفعه الولايات المتحدة. على سبيل المثال، تشير تحليلات معهد التمويل الدولي (IIF) إلى أن متوسط عوائد السندات السيادية في الأسواق الناشئة كان بين 6% إلى 9%، مقارنة بعوائد تتراوح بين 1.5% إلى 2.5% على سندات الخزانة الأمريكية لنفس الآجال.
هذا يعني أن الدول النامية تتحمل أعباء مالية ضخمة في صورة فوائد سنوية، تفوق بكثير نظيراتها في الدول الغنية، ما يحدّ من قدرتها على استخدام هذه الأموال في تنمية بنيتها التحتية أو تطوير التعليم أو الرعاية الصحية.
فى تقرير البنك الدولي لعام 2023 حول “الديون العالمية” أكد أن الدول منخفضة ومتوسطة الدخل دفعت نحو 443 مليار دولار في خدمة الدين الخارجي عام 2022 وحده، وهو أعلى رقم مسجل على الإطلاق.
رأس المال الخائف: كيف تؤثر الأزمات العالمية على كلفة الدين؟
في أوقات عدم الاستقرار العالمي، مثل جائحة كورونا أو أزمة التضخم ما بعد الحرب في أوكرانيا، تتزايد المخاطر في الأسواق، ما يدفع المستثمرين إلى “الهروب نحو الأمان” عبر تحويل استثماراتهم من السندات النامية إلى أدوات الدين الأمريكية، التي تُعتبر أكثر أمانًا وسيولة.
وفقًا لصندوق النقد الدولي، فإن هذا “الهروب إلى الأمان” يؤدي إلى أمرين:
انخفاض الطلب على سندات الدول النامية، وبالتالي ارتفاع أسعار الفائدة المطلوبة لجذب المستثمرين.
انخفاض قيمة العملة المحلية، ما يزيد من كلفة خدمة الديون المقومة بالدولار الأمريكي.
ويشير تقرير الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) الصادر في 2023 إلى أن تكلفة الاقتراض ارتفعت في بعض الدول الإفريقية بنسبة أكثر من 30% خلال الأشهر الستة الأولى من الأزمة الأوكرانية، رغم أنها لم تكن طرفًا مباشرًا في الصراع.
أزمة تمويل أم أزمة عدالة؟
ترى العديد من المؤسسات الدولية، وعلى رأسها مجموعة العشرين، أن ارتفاع تكلفة الدين في الدول النامية ليس فقط مسألة اقتصادية، بل هو انعكاس لخلل هيكلي في النظام المالي العالمي، حيث تُقيَّم المخاطر على أساس لا يأخذ بعين الاعتبار قدرة هذه الدول على السداد، بل يضعها في “سلة موحدة” من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي.
وقد أشار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في خطابه عام 2023، إلى أن “العديد من الدول النامية تواجه الآن خيارًا مستحيلًا: إما سداد الديون أو الاستثمار في الصحة والتعليم والمناخ”.
التعليم والصحة والمناخ: ضحايا الدين المرتفع
ارتفاع كلفة الاقتراض يعني ببساطة أن الدول النامية تضطر إلى تخصيص حصة متزايدة من ميزانياتها لسداد الفوائد، مما يحدّ من تمويل القطاعات الاجتماعية والخدمية. على سبيل المثال:
في العديد من الدول الإفريقية، تجاوزت نفقات خدمة الدين ضعف مخصصات التعليم.
في بلدان مثل غانا وسريلانكا، خصصت الحكومات أكثر من 40% من إيراداتها لسداد الدين، بحسب صندوق النقد الدولي.
مشاريع الطاقة النظيفة أو التكيف مع التغير المناخي يتم تأجيلها أو تقليصها، لغياب التمويل المناسب.
الحلول المقترحة: من تأجيل السداد إلى إعادة هيكلة النظام المالي
دعت عدة مؤسسات دولية إلى تحركات ملموسة لمعالجة الأزمة، ومنها:
إعادة جدولة ديون الدول الأكثر تضررًا، خاصة بعد جائحة كورونا.
إنشاء آلية عالمية لإعادة هيكلة الديون ضمن مظلة صندوق النقد أو الأمم المتحدة.
خفض تقييم المخاطر غير الموضوعي من قبل وكالات التصنيف الائتماني، الذي يرفع تكلفة الاقتراض دون مبرر واقعي.
إنشاء أدوات تمويل بديلة (مثل سندات التنمية المستدامة، أو الصكوك البيئية) بشروط ميسّرة.
خاتمة: أزمة متصاعدة تحتاج إلى عدالة تمويلية
إن استمرار الدول النامية في دفع أربعة أضعاف ما تدفعه الدول المتقدمة للحصول على التمويل يهدد أهداف التنمية المستدامة، ويزيد من التفاوت العالمي. ومع تزايد الأزمات المناخية والاقتصادية، فإن العالم مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بإصلاح حقيقي لنظام الدين الدولي، يراعي الاحتياجات التنموية ويعيد الاعتبار للعدالة الاقتصادية.
المصادر:
البنك الدولي – تقرير الديون العالمية 2023
صندوق النقد الدولي – تقرير “آفاق الاقتصاد العالمي” 2023
معهد التمويل الدولي IIF – بيانات السندات السيادية 2022–2024
الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) – تقرير التمويل من أجل التنمية 2023
تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة – يونيو 2023