سؤال: كتب إلي فضيلة الدكتور محمد نجم الحق الندوي أستاذ الجامعة الإسلامية بشيتاغونغ:
بعد التحيات المباركة نتمنى لكم أتم الصحة ودوام العافية ونحن أيضا كذلك. عندي سؤال: هل بعث نبي أو رسول من الجن؟ وهل بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الجن أيضا؟ نرجو منكم الإجابة في ضوء القرآن والسنة.
الجواب:
الجواب عن المسألتين:
أولًا: مسألة بعثة نبي أو رسول من الجن: اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين مشهورين.
أما القول الذي أراه راجحًا – والعلم عند الله – فهو أن الله تعالى قد بعث في الجن أنبياء ورسلًا من جنسهم، كما بعث في الإنس من بني آدم، وهو قول مقاتل بن سليمان والضحاك، وقد نقله عنهما الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره جامع البيان (12/121) في سياق تفسيره لقول الله تعالى: “يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي” سورة الأنعام الآية 13..
وقد فهم هؤلاء الأئمة من قوله تعالى: “منكم” أن البعثة كانت من كل من الفريقين – الجن والإنس – أي أن الله أرسل في الجن رسلًا منهم، كما أرسل في الإنس رسلًا من بني آدم.
وهذا هو ما اختاره الإمام ابن حزم الأندلسي رحمه الله، حيث قال في المحلى (7/494): “صح يقينًا أن الله عز وجل بعث إليهم – أي الجن – أنبياء منهم”، واستشهد بالآية المذكورة، وعدّها دليلاً صريحًا على هذا المعنى.
ولا يخفي أن دلالة الآية – في ظاهرها – تؤيد هذا الرأي، إذ الخطاب موجه إلى الثقلين، وجاء بصيغة “منكم”، وهي تفيد – في أصل الوضع اللغوي – المجانسة، أي: أن كل صنف جاءه رسول من بني جنسه.
ولا يخفي أن عدم ورود أسماء أو قصص مفصلة عن أنبياء الجن لا يُعد دليلاً قاطعًا على نفي بعثتهم، إذ إن كثيرًا من أخبار الأمم لم تُذكر تفصيلًا في القرآن.
ثانيًا: مسألة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الجن، ذهب جمهور العلماء – قديمًا وحديثًا – إلى أن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم قد بُعث إلى الثقلين: الإنس والجن، وأن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة شاملة لكل مكلف.
ومع اعترافي بأن هذا هو قول الجمهور، إلا أنني أميل إلى أن هذا الرأي مرجوح، فنبينا صلى الله عليه وسلم من الإنس، والقاعدة التي يقرّرها القرآن الكريم هي أن الرسول لا بد أن يكون من جنس من أُرسل إليهم، كما في قوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ” سورة يوسف الآية 1.9.
وقوله سبحانه: “وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا” سورة الأنعام الآية 9. وهذا يدل على أن من شروط الرسول أن يكون من جنس المرسل إليهم، حتى يألفوه ويفهموا خطابه ويأنسوا ببلاغه، وهذا – في الأصل – لا يتحقق بين الإنس والجن إلا نادرًا، لما بين الجنسين من اختلاف في الطبيعة والتكوين والإدراك.
وليعلم أن إيمان الجن برسول من الإنس لا يُشترط فيه أن يكون مبعوثًا إليهم مباشرة، فالإيمان بالرسل واجب على كل مخلوق بلّغته الدعوة، ولو لم يُبعث إليه الرسول مباشرة، وهذا ما تدل عليه آيات القرآن، فقد آمن الجن بموسى عليه السلام، كما في قولهم: “إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ” سورة الأحقاف الآية 3..
وكذلك آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، حين سمعوا القرآن يُتلى، فقالوا: “يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ” سورة الجن الآية 2.
فالاستماع والهداية والإيمان لا تقتضي بالضرورة البعثة المباشرة، وإنما تتحقق ببلوغ الحجة، وسماع الدعوة.
ولم يذكر القرآن الكريم استماع الجن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا في موضعين اثنين، مما لا يُعد دليلاً كافيًا على أن بعثته صلى الله عليه وسلم كانت إليهم على جهة الخصوص والاستقلال.
فلو كان مرسلاً إليهم كما أُرسل إلى العرب من الإنس، لاقتضى ذلك أن يمكث فيهم مدةً طويلة، يدعوهم كما دعا قومه، ويخالطهم كما خالط أتباعه من البشر، ويواجه من تكذيبهم ما واجه من قومه، وتكون له بينهم مواقف ومشاهد كما كانت له في بدر وأُحد وحنين وسائر الغزوات.
ولكن القرآن لم يذكر من ذلك شيئًا، بل اقتصر على إيراد خبر استماعهم للقرآن في موضعين، دون أن يُسجل للنبي صلى الله عليه وسلم معهم مقام دعوة مطولا، أو نزاعا، أو جدالا، كما هو الحال مع بني آدم من الكافرين والمنافقين وأهل الكتاب.
فهذا كلّه يرجّح أن إيمان الجن كان تبعًا لا أصالة، واستجابةً لما بلغهم من دعوة رسولٍ بُعث إلى غيرهم، لا إلى ذواتهم مباشرة.
هذا ما عندي، والله أعلم بالصواب.