مقدمة: آلام صامتة تنخر المجتمع
في زحمة الحياة وتشابك المصالح يغيب عن كثيرين أن الكلمة الجارحة أو النظرة المستعلية قد تُحدث شرخًا عميقًا في نفس إنسان لا يملك سوى الصمت، فتترك فيه ندبة لا تزول، وتظل تؤلمه مع كل ذكرى. هذه الخواطر المكسورة ليست ألمًا فرديًا عابرًا، بل هي جرح في جسد المجتمع الواحد ينزف منه التماسك والقيم، فتتصدع أواصر الأخوة وتتآكل الرحمة. لقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الداء الخفي حين قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله» [البخاري: 2442]، فكيف نكون أمةً متماسكة إذا سمحنا لأنفسنا أن نكسر قلوب بعضنا بكلمة أو فعل أو حتى بإشارة؟
مظاهر كسر الخواطر
تتعدد صور كسر الخواطر في حياتنا، ولعل من أبينها التعيير بالنقص، كالاستهزاء بلون البشرة، أو السخرية من إعاقة جسدية، أو احتقار مهنة شريفة، وكلها مظاهر معاصرة للتفاخر الجاهلي الذي نهى عنه الإسلام. فقد عاتب النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر حين عيّر رجلاً بأمه الأعجمية قائلاً: «إنك امرؤ فيك جاهلية» [مسلم]، ليبين لنا أن التنمر أو التعيير ليس مجرد زلة لسان بل هو جريمة أخلاقية تمس كرامة الإنسان.
ومن صور كسر الخواطر أيضًا ما نراه في سوء معاملة الفقراء والضعفاء، وكأن الحاجة وصمة عار عليهم، فنكيل لهم الاحتقار أو نثقلهم بعبارات تؤذيهم وتزيدهم همًّا فوق همّهم، مع أن القرآن الكريم يقرر بوضوح: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾ [البقرة: 263]، فحتى الصدقة لا تقبل إن رافقها امتهان واحتقار للمعطي له.
وأشد ما يكسر الخواطر أن نحبط التائبين ونغلق أمامهم أبواب العودة إلى الله، فنستهزئ بماضيهم ونعرقل توبتهم، مع أن الواجب سترهم وتشجيعهم على الإصلاح، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» [البخاري]. إن ثقافة التهكم على التائبين تحبط العزائم، وتغلق منافذ الأمل أمامهم.
جذور هذه الآفة
إن أسباب كسر الخواطر تعود إلى دوافع نفسية واجتماعية خطيرة؛ منها الغرور بالمال أو النسب الذي يولّد الشعور بالطبقية، ومنها قسوة القلب وعدم إدراك أثر الكلمات على النفوس، ومنها الجهل بشرائع الإسلام وأحكام الأخوة الإيمانية، فتنشأ الكراهية ويتفكك المجتمع وتضيع البركة والأجر. لقد جاء الإسلام ليقتلع هذه الأخلاق الجاهلية من جذورها، ويبني مكانها ميزان العدل والإحسان، ويرسخ قيم التراحم والإنصاف.
جبر الخواطر.. سبيلنا إلى مجتمع معافي
ولعلاج هذه الآفة الخطيرة لا بد من بناء جسور الرحمة، بإحياء ثقافة “كن في حاجة أخيك” التي ربط بها النبي صلى الله عليه وسلم بين خدمة الناس ونيل معونة الله، حيث قال: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» [البخاري].
كذلك نتعلم من ديننا قيمة الستر على الناس بدل فضحهم، ما لم يكن في ذلك ضرر عام، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من فرّج عن مسلم كربةً فرّج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة» [البخاري]. كما نحتاج إلى ترطيب ألسنتنا وتليين كلماتنا، فالقسوة في القول ليست شجاعة بل ضعف في الروح، والقرآن يقرر بوضوح: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]، فحتى النصيحة يمكن تقديمها بلطف لا يجرح ولا يهدم.
خاتمة: لنعالج الشرخ قبل أن يتسع
إن الخاطر المكسور أشبه بعظمة مشروخة في جسد الأمة، قد لا يراها الناس لكنها تؤلم مع كل حركة، فتشل قوى المجتمع وتفقده القدرة على التعاون والبناء. لن نصلح أمتنا ونحن نحمل مطرقة الكسر في أيدينا. وتبقى وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم نبراسًا لنا: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه» [مسلم]، فهي تذكرنا أن جبر الخواطر زينة أخلاقنا وعنوان إنسانيتنا. فليكن شعارنا دائمًا قول المصطفي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» [البخاري]، فمن يحب أن يُكسر خاطره؟