بعد أن أدينا واجب العزاء في أستاذ جامعي من جيل الرواد، رافقت أحد زملائي نزولا من الهضبة العالية في تلك المدينة الجديدة إلى وسط البلد حيث ضفاف النيل.
تعمد زميلي أن يقود سيارته على مهل السلحفاة كي نتجاذب أطراف الحديث، لأننا نلتقي بالكاد في خضم زحمة الحياة.
سألته عن آخر مساهماته البحثية وفيما هو منشغل فأجابني: التدريس يلتهم كل وقتي.
يقول زميلي العزيز الذي يعمل في إحدى الجامعات المصرية الحكومية إنه يدرس لنحو 1000 طالب كل عام.
حين سمعت هذا العدد تعجبت للغاية، هل يتخرج لدينا كل هؤلاء الجغرافيين من جامعة واحدة كل عام؟ وأين دورهم في المجتمع؟ ولماذا لا نقرأ لهم؟ ولماذا لا نجدههم في الدوائر الثقافية والعلمية وإدارة البلاد؟
أوضح لي زميلي أن هذا العدد يدرس ما يسمى تطبيقات المساحة ونظم المعلومات الجغرافية المطلوبة في شركات الإسكان والتعمير ومشروعات البنية الأساسية.
يقول زميلي إن الإقبال من أولياء الأمور على هذه البرامج المساحية في قسم الجغرافيا كبير للغاية لأنهم يجدون لأبنانئهم فرصة عمل بعد التخرج.
قلت له: ولكن المساحة وخرائط شركات الإسكان ليست جغرافيا !
أجابني: لكن هذه الجغرافيا التي لا تعجبك توفر فرص عمل هائلة …والجغرافيا التي تفكر فيها لن تغري أحدا بدراستها.
سألت زميلي: وأين أحلامنا القديمة عن التأليف والبحث والترجمة والترحال؟
أجابني: أنت تعلم أن راتب أستاذ الجامعة لا يكفي أسبوعا، ولولا التدريس في هذه البرامج ما توفر المال الكافي لتلبية نفقات الأسرة ومطالب الحياة.
كنا في عزاء أستاذ من الجيل القديم، الذي ترك أثرا علميا بلغ ذروته في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.
ينتمي هذا الأستاذ إلى جيل الراحلين: محمد رياض، جمال حمدان، صبحي عبد الحكيم وصفي أبو العز وغيرهم، أولئك الذين ما زلنا نقرأ مؤلفاتهم بإعجاب رغم تقادمها.
إذا وضعنا التجربة المتفردة للراهب العبقري جمال حمدان في سلة وحدها فدعونا ننظر إلى بقية الجيل القديم الذين اختاروا حياة عادية بها زواج وأبناء، وشاركوا في العمل العام، وسافروا إلى الإعارات بالجامعات العربية وأشرفوا على طلاب في الجامعات المصرية، ورغم كل ذلك تركوا بعض أثر علمي.
اللافت أن كل مشاغل الحياة عند هذا الجيل القديم لم تكن تستهلك من وقتهم أكثر من 50 %، ولم يكن لديهم هذا الهاجس المخيف كل يوم بشأن معضلة الدخل والإنفاق وتوفير سبل الحياة.
كان الواحد من هؤلاء يسافر في حياته الجامعية ما بين 5 إلى 10 سنوات في دولة عربية شقيقة يعود منها بمدخرات ينفق منها على بقية حياته وتعطيه فسحة من الوقت كي يؤلف ويترجم ويشارك في المنتج الثقافي.
ومع تبخر فرص السفر هذه – سواء بحلول الأستاذ الوطني في تلك الدول العربية أو بإغلاق أقسام الجغرافيا جهلا بأهمية هذا العلم- لم يعد أمام الأستاذ المصري سوى التدريس ليل نهار في برامج ومقررات في الداخل المصري كي توفر له الدخل المالي الذي يكفي حاجات الحياة.
والنتيجة احتراق العمر الإنتاجي لحياة الجغرافي المصري!
الزمن الذي نعيش فيه أيضا لا يشبه ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، فلا أحد منا ينجو من الوقوع في مصيدة ثقافة الاستهلاك والرغبة في تقليد الطبقات الأفضل في السكن ومستوى المعيشة، فضلا عن معضلات المجتمع المصري المعاصر في الأسرة والزواج، لن أحدثك عن الاستقطاب السياسي والديني، والصراعات الجانبية وغيرها من أمراض العصر.
السؤال بدقة: هل مشكلة الجيل الحالي من الجغرافيين أنه أقل فرصا ومن ثم أخف أثرا ؟
الصورة في الحقيقة أعقد من هذا التبسيط، هناك أيضا الطفرة الكبيرة التي حدثت في طرق تحصيل المعلومات والمعارف والخبرات والتطور المدهش الذي شهده علم الجغرافيا في الخارج وتخلفنا نحن عنه، ويحتاج إلى مهارات جديدة ومخاطرات جديدة.
وهنا نأتي إلى نموذح الراهب العبقري جمال حمدان.
لقد أغلق حمدان بابه على نفسه وزهد في كل شيء – من مال وسلطان ومتع الحياة – لكنه احتفظ في صومعته بكنوز من المؤلفات التي كتبها مفكرون سابقون عن جغرافية مصر والعالم، جمعها برؤية ثاقبة في سنوات البعثة إلى إنجلترا وأكملها في سنوات اعتكافه.
حياة الزهد التي عاشها حمدان اكتفت بما لديه من مراجع لأن الرجل قرر أن يكون “فيلسوفا للجغرافيا.”
لو قرر شاب جغرافي اليوم أن ينتهج النهج الحمداني وزهد في الدنيا وما فيها وأغلق على نفسه بابه كي يقرأ ويفكر ويضع خلاصة الأطروحات والأفكار سيجد صعوبات كبيرة أهمها الثورة الهائلة في المنتج العلمي الجغرافي (وهي أزمة بمثل ما هي فرصة).
سيفاجأ هذا الشاب أيضا بالانصراف الجماهيري عن القراءة الأدبية والنظرية والفلسفية، وغياب المشروع الوطني أو القومي الجغرافي في ظل مهددات وجود أمتنا العربية في قاع المنحنى وليس في قمته (الذي كانت عليه في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين).
حين وصلت سيارة زميلي إلى وسط البلد سألته:
حسنا، لو عادت أجواء الماضي وأصبح الراتب يكفي الإنفاق، وتكررت فرص الإعارة والرواتب المجزية، وأصبح عدد الطلاب في قسم الجغرافيا 13 طالبا او 20 طالبا كما في عهد صفي ورياض وحمدان وليس 1000 طالب كما يدرس بعض الجغرافيين في جامعات مصرية اليوم: هل سيعود الإنتاج الجغرافي المتميز كما كان؟
أجابني : لا أعرف …!
ودعت زميلي العزيز وطلبت تاكسي لإكمال رحلتي الطويلة إلى الطرف الآخر من المدينة..
كان الليل قد هبط أكثر ..والمارة أصبحوا أقل فأقل …
غادرت المدينة المزدحمة واستقبلت شطرا من الصحراء
هب نسيم ليلي لطيف رحيم فخفف من زحمة الأفكار والمشاغل والمتاعب.
اعتبرتها بشرة خير..فلعل الغد يحمل لجيل الجغرافيين الجدد أفضل مما هو متاح للجيل الحالي: فيكون لديهم كثير من الفرص ..كثير من الأثر .
وحين دخلت باب شقتي همست لنفسي: يبدو أن جيل الماضي لم يتفوق لأنه أكثر ذكاء، فالجيل الحالي لديه ذكاء أحد، بل تفوق لأنه كان صاحب تركيز أكثر، وجدية أشد، وإخلاص أوضح، وكان لديه من الوقت ما يعادل ثروة..
فثروة الباحث هي عدد الساعات المتبقية له: ليقرأ ويسافر…ويكتب !