مقالات

محمد إلهامي يكتب: روح الروح

ذلك المشهد العجيب، مشهد الأب المتصبِّر المتصلِّب الذي يجمع أطراف نفسه ويقبض على أشتات روحه، وهو يمسك بطفلته الهاجعة في هجعتها الأخيرة..

ذلك المشهد يُذَكِّر بما رواه ابن قدامة في «كتاب التوابين»، وفيها يروي قصة توبة منسوبة لمالك بن دينار، وكان البطل فيها ابنة صغيرة في هذا العمر نفسه!

وهي قصة مفيدة جميلة، أنقلها هنا..

قال ابن قدامة:

رُوِيَ عن مالك بن دينار، أنه سئل عن سبب توبته فقال: كنت شرطيًا، وكنت منهمكا على شرب الخمر، ثم إنني اشتريت جارية نفيسة، ووقعت مني أحسن موقع، فولدت لي بنتا، فشغفت بها، فلما دبت على الأرض ازدادت في قلبي حبا، وألفتني وألفتها.

قال: فكنت إذا وضعت المسكر بين يدي، جاءت إلي وجاذبتني عليه، وهرقته من ثوبي.

فلما تم لها سنتان ماتت، فأكمدني حزنها.

فلما كانت ليلة النصف من شعبان، وكانت ليلة الجمعة، بت ثملا من الخمر، ولم أُصلّ فيها عشاء الآخرة، فرأيت فيما يرى النائم: كأنَّ القيامة قد قامت، ونفخ في الصور، وبعثرت القبور، وحشر الخلائق وأنا معهم، فسمعت حسَّا من ورائي، فالتفت، فإذا أنا بتنين أعظم ما يكون، أسود أزرق، قد فتح فاه مسرعا نحوي.

فمررت بين يديه هاربا فزعًا مرعوبًا، فمررت في طريقي بشيخ نقي الثوب طيب الرائحة، فسلمت عليه، فرد السلام، فقلت: أيها الشيخ! أجرني من هذا التنين أجارك الله.

فبكى الشيخ، وقال لي: أنا ضعيف، وهذا أقوى مني، وما أقدر عليه، ولكن مرّ وأسرع، فلعل الله أن يتيح لك ما ينجيك منه.

فوليت هاربا على وجهي، فصعدت على شرف من شرف القيامة، فأشرفت على طبقات النيران، فنظرت إلى هولها، وكدت أهوي فيها من فزع التنين، فصاح بي صائح: ارجع، فلست من أهلها! فاطمأننت إلى قوله، ورجعت.

ورجع التنين في طلبي، فأتيت الشيخ فقلت: يا شيخ سألتك أن تجيرني من هذا التنين، فلم تفعل، فبكى الشيخ، وقال: أنا ضعيف، ولكن سر إلى هذا الجبل، فإن فيه ودائع المسلمين، فإن كان لك فيه وديعة، فستنصرك.

قال: فنظرت إلى جبل مستدير من فضة، وفيه كُوى مخرمة، وستور معلقة، على كل خوخة وكوة مصراعان من الذهب الأحمر، مفصلة باليواقيت ـ مكوكبة بالدر، على كل مصراع ستر من الحرير، فلما نظرت إلى الجبل وليت إليه هاربًا والتنين من ورائي، حتى إذا قربت منه صاح بعض الملائكة: ارفعوا الستور وافتحوا المصاريع وأشرفوا! فلعل لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوه، فإذا الستور قد رفعت، والمصاريع قد فتحت، فأشرف علي من تلك المخرمات أطفال بوجوه كالأقمار، وقرب التنين مني، فتحيرت في أمري.

فصاح بعض الأطفال: ويحكم أشرفوا كلكم فقد قرب منه عدوه.

فأشرفوا فوجا بعد فوج، وإذا أنا بابنتي التي ماتت قد أشرفت علي معهم، فلما رأتني بكت وقالت: أبي والله، ثم وثبت في كفة من نور، كرمية السهم، حتى مثلت بين يدي، فمدت يدها الشمال إلى يدي اليمنى فتعلقت بها، ومدت يدها اليمنى إلى التنين، فولى هاربا.

ثم أجلستني وقعدت في حجري، وضربت بيدها اليمنى إلى لحيتي، وقالت: يا أبت (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) [الحديد: 16].

فبكيت وقلت: يا بنية! وأنتم تعرفون القرآن فقالت: يا أبت! نحن أعرف به منكم.

قلت: فأخبريني عن التنين الذي أراد أن يهلكني

قالت: ذلك عملك السوء، قويته، فأراد أن يغرقك في نار جهنم.

قلت: فأخبريني عن الشيخ الذي مررت به في طريقي

قالت: يا أبت! ذلك عملك الصالح، أضعفته حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء.

قلت: يا بنية! وما تصنعون في هذا الجبل

قالت: نحن أطفال المسلمين، قد أسكنا فيه إلى أن تقوم الساعة، ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم.

قال مالك: فانتبهت فزعا، وأصبحت، فأرقت المسكر، وكسرت الآنية وتبت إلى الله -عز وجل- وهذا كان سبب توبتي.

محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى