د. محمد إبراهمي يكتب: مكانة الأسرة ومنهج النظر في قضاياها
يعرف موضوع الأسرة نقاشا وسجالا متعدد الوجهات والمنطلقات، وهو أمر صحي وظاهرة طبيعية حين يتعلق الأمر بورش مجتمعي يتأسس عليه مطالب إصلاحية كبرى تخص أهم مؤسسة مجتمعية، بل وتهم المجتمع كله.
واستمرارا في النقاش الذي أطلقته شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك في الندوة الوطنية حول مدونة الأسرة بين مطالب التعديل والحاجة إلى التأصيل ، وسعيا مني في إثراء النقاش العلمي في هذا الموضوع، سأحاول في عدد من المقالات العلمية النظر في قضايا هذه المؤسسة التي حظيت بالرعاية والعناية البالغة في التشريع الإسلامي وفي خطاب الفاعل العلمي والسياسي والمدني.. وفق مقاربة منهجية تجمع بين المرجعية الشرعية والقانونية، ومندمجة في النظر والتحليل، مع التركيز على عدد من القضايا التي أثارت نقاشا وجدلا فكريا وعلميا بين عدد من الفاعلين في حقل الفكر والثقافة والسياسة..
وسأنطلق ابتداء بإبراز مكانة هذه المؤسسة في بنية النص التشريعي والواقع المجتمعي، ومنهج مقاربة النظر والتفكير في قضاياها وإشكالاتها.
1: في مكانة مؤسسة الأسرة:
تحتل الأسرة مكانة بالغة الأهمية في النص التشريعي الإسلامي، فقد ربط الله تعالى تقواه بحفظ هذه المؤسسة، وحماية منظومة القيم المؤسسة لها والضامنة لتماسكها، حيث قال الله تعالى ” يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ” وفصل في الأحكام الضابطة لعلاقة أفرادها والحامية لحقوقهم ومصالحهم، في نسق تعاقدي موسوم بالتراحم والتكامل في الوظائف والأدوار التربوية والاجتماعية، وبما يمَكِّن هذه المؤسسة من القيام بوظائفها الأساسية، وفي مقدمتها التربية والتنشئة على منظومة القيم المرجعية، حيث قال صلى الله عليه وسلم ” كلم ولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه”
كما تسهم مؤسسة الأسرة إلى جانب التربية على القيم والتنشئة عليها في استقرار المجتمع وتماسكه في حال الأزمات والتوترات، لما تقوم به من وظائف إلى جانب بقية مؤسسات المجتمع، وقد تنوب عنه أحيانا في بعضها، وقد استطاعت الأسر – خلال فترة الحجر التي فرضتها جائحة كورونا – أن تقوم بوظائف تعليمية وتربوية واجتماعية وأمنية وصحية في وقت توقفت فيه الكثير من مؤسسات المجتمع.
2: منهج النظر والتفكير في قضايا الأسرة:
إن أهم محدد نظري في مقاربة قضايا الأسرة هو المحدد المرجعي، فمكانة الأسرة في النص التشريعي تبرز المكانة البالغة التي حظيت بها، وتؤكد أن أي مقاربة لمواضيعها التشريعية والاجتماعية ينبغي أن تنطلق من المنطلقات المرجعية للمجتمع المغربي والتي تتعلق بالإسلام وقيمه وأحكامه وعادات المجتمع المغربي التي لا تتعارض مع هذه الثوابت. فالدستور وهو أسمى وثيقة قانونية يؤكد ذلك في المادة الثانية والثلاثين التي جاء فيها أن : “الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع.”…..كما أكد ذلك الخطاب الملكي لعيد العرش في يوليو 2022، حيث جاء فيه ” وبصفتي أمير المؤمنين ، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية.
ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك ، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية.”
وكما يحتاج الموضوع إلى استحضار المرجعيات المؤطرة لمؤسسات المجتمع في أي اجتهاد أو نظر يحتاج إلى التكامل والتشاور في التفكير كما جاء في آخر مضمون الخطاب الملكي أعلاه، ويحتاج إلى المقاربة الشمولية والمؤسساتية بما يضمن تحقيق مصالح الأسرة واستقرارها وتماسكها وقيامها بأدوارها الاجتماعية والإصلاحية.
وستحاول المقالات القادمة بحول الله تحكيم هذا المنهج في النظر لمناقشة عدد من القضايا التي أثارت نقاشا علميا في الموضوع، مع استحضار المكانة والوظيفة المهمة لهذه المؤسسة في المنطلقات المرجعية وفي المجتمع. والهدف إثراء النقاش من منطلق علمي، وتسديد مقاربات الإصلاح بما يسهم في تماسك مؤسسة الأسرة واستقرارها وأدائها لوظائفها التربوية والاجتماعية..