تشهد نيبال منذ مطلع سبتمبر موجة احتجاجات واسعة قادها شباب «جيل زد» رفضًا لقرار حكومي بحظر عدد من منصات التواصل الاجتماعي، في وقت تتهم فيه السلطة بالفساد وإساءة استخدام النفوذ.
الاحتجاجات التي انطلقت في العاصمة كاتماندو وعدة مدن أخرى سرعان ما تحولت إلى مواجهات عنيفة مع قوات الأمن، بعدما حاول متظاهرون الوصول إلى مبنى البرلمان، قوات الشرطة ردت باستخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي وخراطيم المياه، قبل أن يتم تسجيل إطلاق نار حي أسفر عن سقوط ما لا يقل عن 19 قتيلًا وعشرات الجرحى.
أمام تصاعد الغضب الشعبي، سارعت الحكومة إلى رفع الحظر عن المنصات الإلكترونية، مؤكدة أنها ستعيد النظر في الإجراءات التنظيمية المتعلقة باستخدام وسائل التواصل. غير أن المحتجين واصلوا تحركاتهم، مطالبين بحل البرلمان وتشكيل حكومة مؤقتة بمشاركة الشباب ومحاسبة المسؤولين عن أعمال العنف.
الأحداث الدامية دفعت منظمات حقوقية محلية ودولية إلى مطالبة السلطات بفتح تحقيق عاجل في استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين، فيما دعت الأمم المتحدة إلى احترام الحق في التعبير السلمي وضمان عدم تكرار ما حدث.
خلفية تاريخية
حين أعلنت نيبال تحولها إلى جمهورية قبل أكثر من عقد ونصف، بدت البلاد وكأنها تفتح صفحة جديدة بعد قرون من الملكية لكن التجربة سرعان ما واجهت عقبات سياسية واقتصادية عميقة.
وتناوب على السلطة قادة يمثلون تيارات متباينة من الشيوعية الماوية إلى الليبرالية الديمقراطية دون أن يتمكن أي منهم من تحقيق الاستقرار أو إطلاق إصلاحات اقتصادية جادة.
تناوب الزعماء وتعدد الولاءات
تصدّر المشهد ثلاثة أسماء أساسية، أولي، الذي يميل بوضوح إلى الصين، وبراتشاندا، زعيم الحزب الماوي المركزي الذي قدم نفسه ممثلا للمقاومة الثورية، ثم شير بهادور ديوبا، المخضرم الذي شغل منصب رئيس الوزراء خمس مرات.
ورغم اختلاف المرجعيات السياسية فإن القاسم المشترك بينهم كان اتهامات الفساد وضعف القدرة على بناء مؤسسات مستقلة قادرة على مواجهة نفوذ رجال الأعمال وشبكات المحسوبية.
رأى خبراء
الخبير السياسي النيبالي بوشن ناياك يرى أن المشكلة ليست في شخصيات الزعماء بقدر ما هي في النظام الحزبي القائم على التحالفات الهشة والذي يجعل أي حكومة رهينة صفقات آنية لا تستند إلى برامج بعيدة المدى.
الشباب بين الغضب والإحباط
الجيل الشاب الذي كان يعلق آماله على الجمهورية وجد نفسه أمام مشهد خانق، فالبطالة تتفاقم والركود الاقتصادي يضغط على الحياة اليومية والهجرة تبدو الملاذ الوحيد لكثير من الخريجين الجامعيين ومع غياب فرص العمل وارتفاع الأسعار تتنامى موجة سخط قد تتحول إلى حركة احتجاجية واسعة تضع النظام السياسي برمته على المحك.
تحت ال30
ويؤكد الخبير الاجتماعي سوجان شريستا أن أكثر من نصف سكان نيبال تحت سن الثلاثين وهو ما يجعل أي انسداد اقتصادي أو سياسي قادرا على إشعال احتجاجات غير متوقعة.
اقتصاد متعثر وسياسة مرتبكة
الاقتصاد النيبالي يعاني من ضعف الاستثمار وتراجع السياحة بسبب الاضطرابات السياسية إضافة إلى الاعتماد المفرط على التحويلات المالية من الخارج وهو ما جعل البلاد رهينة للتقلبات الدولية، ومع انقسام النخب بين الولاء للهند والصين تظل القرارات الاقتصادية رهينة التجاذبات الجيوسياسية أكثر من حاجات المجتمع الداخلية.
خسارة الموقع
ويقول الاقتصادي الهندي راميش ياداف إن نيبال خسرت خلال السنوات الأخيرة ميزة الموقع الجغرافي بسبب غياب الاستقرار إذ فشلت في التحول إلى ممر تجاري إقليمي بين الصين والهند.
بين المطرقة والسندان
الجارتان الكبريان الصين والهند تمثلان عامل ضغط دائم، فبينما تسعى بكين إلى ربط نيبال بمبادرة الحزام والطريق تخشى نيودلهي من تحول البلاد إلى ساحة نفوذ صيني مقلق.
ضعف الاحزاب
ويرى الخبير الإستراتيجي البروفيسور سانجيف لاميتشا من جامعة كاتماندو أن عدم قدرة الأحزاب النيبالية على صياغة سياسة خارجية متوازنة يفاقم هشاشة الداخل ويجعل نيبال أقرب إلى ملعب صراع إقليمي
سيناريوهات المستقبل
تصاعد التوترات يعكس مأزقا مزدوجا.، أزمة ثقة في القيادة وأزمة اقتصادية خانقة وإذا لم تنجح القوى السياسية في إعادة صياغة عقد اجتماعي جديد يضمن محاربة الفساد وإطلاق فرص عمل للشباب فقد تشهد نيبال موجة اضطرابات تضع تجربتها الجمهورية على حافة الانهيار أو تدفعها نحو تدخل خارجي أكبر من الجارتين العملاقتين الصين والهند.
اطماع الجيران
في بلد محاصر بين جبال الهيمالايا وأطماع الجيران يجد شعب نيبال نفسه عالقا بين فساد داخلي وضغوط خارجية، وبين بطالة خانقة وأحلام مهاجرة وإن استمرت الأزمات دون حلول جذرية فقد يتحول الحلم الجمهوري إلى كابوس تاريخيآخر يضاف إلى سجل شعب لا يزال يبحث عن وطن مستقر وهو ما يجعل نيبال أقرب إلى الانزلاق في دوامة فراغ سياسي قد يبتلع مستقبل جيل كامل قبل أن يجد طريقا للخلاص.
المسلمون في نيبال أقلية تاريخية متجذرة
يُقدر عدد المسلمين في نيبال بما يقارب 5 بالمئة من السكان أي حوالي مليون ونصف المليون نسمة وتعود جذور وجودهم إلى قرون من التبادل التجاري مع الهند وبلاد آسيا الوسطى، حيث استقر التجار والحرفيون في مناطق مثل تيراي وكاتماندو ليشكلوا نسيجًا اجتماعيًا متنوعًا داخل بلد متعدد الأديان واللغات.
تحديات سياسية واجتماعية
رغم الاعتراف الرسمي بالمسلمين كجزء من المكونات الوطنية فإنهم يواجهون تهميشًا واضحًا في الحياة السياسية حيث تمثيلهم ضعيف في البرلمان والوزارات وغالبًا ما يقتصر على مناصب رمزية لا تغير في موازين القوى.
حكومات تجاهلت المسلمين
ويقول الباحث النيبالي محمد شريف إن الحكومات المتعاقبة لم تقدم برامج جادة لتحسين أوضاع المسلمين خصوصًا في مجالات التعليم والبنية التحتية مما أبقى معدلات الفقر مرتفعة داخل التجمعات المسلمة مقارنة بباقي المكونات.
الاقتصاد والعمل
غالبية المسلمين في نيبال يعملون في الحرف الصغيرة والتجارة المحلية والزراعة وبعضهم يعتمد على التحويلات من أفراد العائلة المهاجرين في الخليج والهند، ومع الركود الاقتصادي وارتفاع البطالة تضررت هذه الفئات بشدة وأصبح كثير من الشباب المسلم يسعى للهجرة كما يفعل أقرانهم من مختلف الخلفيات.
التوترات الدينية والخوف من التهميش
رغم أن نيبال بلد متنوع الأديان نسبياً فإن بعض المسلمين يخشون من تنامي النزعات القومية والهندوسية المتأثرة بالهند المجاورة إذ ظهرت دعوات في بعض التيارات لإعادة صياغة هوية البلاد بما يضع الأقليات في موقف دفاعي.
ويقول أستاذ العلوم الاجتماعية أنور حسين من جامعة كاتماندو إن المسلمين يجدون أنفسهم مضطرين للتوازن بين الحفاظ على هويتهم الدينية وبين الاندماج في مجتمع متعدد الأديان تسوده غالبية هندوسية وبوذية.
الدور المستقبلي
مع تصاعد الغضب الشعبي ضد الفساد وتنامي دعوات التغيير يرى بعض النشطاء أن لدى المسلمين فرصة للانخراط في الحركات الشبابية الواسعة باعتبارهم جزءًا من الفئات المهمشة اقتصاديًا وسياسيًا وهو ما قد يمنحهم مساحة أكبر للتأثير والمطالبة بحقوقهم ضمن أي عقد اجتماعي جديد قد يولد من رحم الأزمات الحالية.
من أقلية صامتة إلى فاعل سياسي
مشاركة المسلمين في المظاهرات الأخيرة قد تكون نقطة تحول تاريخية إذ اعتادوا في السابق على البقاء في دائرة التهميش والانشغال بقضاياهم المحلية لكن وجودهم في صفوف المحتجين يمنحهم فرصة للتحول إلى كتلة ضغط وطنية وليس مجرد أقلية تبحث عن حقوقها الخاصة.
إعادة صياغة التحالفات
الأحزاب الكبرى في نيبال مثل الماويين والمؤتمر النيبالي، غالبًا ما تجاهلت القاعدة الشعبية المسلمة لكن استمرار الحراك قد يدفع هذه الأحزاب إلى مراجعة حساباتها ومحاولة استقطاب المسلمين لضمان أصواتهم في أي انتخابات قادمة.
ويرى الخبير الإستراتيجي سانجيف لاميتشا أن المسلمين قد يتحولون إلى بيضة القضبان في أي معادلة انتخابية إذا تمكنوا من تنظيم أنفسهم سياسيا.
ولادة حركات جديدة
من المتوقع أن يظهر جيل من القيادات الشبابية المسلمة التي ستتجاوز الأطر التقليدية وتسعى لتأسيس أحزاب أو حركات مدنية عابرة للطوائف تضع قضايا العدالة الاجتماعية والاقتصاد في المقدمة وهو ما قد يعزز دورهم كجسر بين الأقليات وبقية المجتمع.
تأثير إقليمي
وجود أقلية مسلمة أكثر فاعلية في نيبال قد يثير اهتمام الجارتين الهند وبنغلادش حيث المسلمون هناك يعيشون أوضاعًا مختلفة لكنهم يراقبون تطور التجربة النيبالية.
حراك وطنى
ويقول الباحث البنغالي أنور الحق إن تحرك المسلمين في نيبال داخل حراك وطني جامع قد يقدم نموذجًا مغايرًا عن الصورة السائدة في جنوب آسيا حيث تُختزل الأقليات غالبًا في قضايا طائفية.
سيناريوهات متوقعة
إذا استجابت الأحزاب الكبرى لمطالب الإصلاح وفتحت الباب أمام مشاركة الأقليات فقد نشهد اندماجًا حقيقيًا يعزز الديمقراطية.
أثر التهميش
وإذا استمرت سياسة التهميش فقد يدفع ذلك المسلمين إلى تشكيل قوة سياسية خاصة بهم وهو ما قد يغير ميزان القوى في الانتخابات.
أما إذا تفاقمت الأزمات وانهارت الثقة في المؤسسات فقد يصبح المسلمون جزءًا من حراك احتجاجي أوسع يهدد النظام السياسي كله.
