الثلاثاء أبريل 30, 2024
مقالات

د. وليد عبد الحي يكتب: العلم والوجه الآخر للموت في غزة

في الموت بعدان مستقبليان..

الأول يقين وقوعه في المستقبل القريب أو البعيد،

وثانيهما ظنون زمن الوقوع الآن أو في غد مفتوح،

وفي الموت ثنائية أخرى هي ثنائية الجسد والروح، وهنا ينقسم الفلاسفة والأديان والعلمانيون في النظرة حولهما، فإن كان أفلاطون أكد ثنائيتهما وأن الفناء يصيب الجسد بينما الروح أبدية، فإن أبيقور رأى أنهما وحدة واحدة، فإن جاء الموت لا أكون، أما إذا كنت فالموت غائب، ومن هنا سخر أبيقور من الخوف من الموت، فكيف أخاف من قادم لا أكون حين حضوره ولا يحضر وأنا كائن، وفي الأدبيات الإسلامية فإن الجسد ذاهب يقينا للموت (كل نفس ذائقة الموت)، أما الروح فهي «من أمر ربي».

استعدت هذه الأفكار وأنا أرى أخبار الموت في غزة، بدأ الموت وكأنه مفاجأة، ثم تزايد، واعتاد الناس على أخباره وتزايدت الأعداد من العشرات إلى المئات إلى الآلاف ثم أصبحنا في مرحلة عشرات الآلاف.. قتلوا الرضيع والطفل والمرأة والرجل.. ثم قتلوا أبناء القائد في لحظةٍ تكرس «بعض» الإعلام النفطي للزعم أنهم في مكان يشابه بيت أبي نواس..

لكن ما شغلني أكثر هو بناء فهم معرفي لرد فعل الأب القائد الذي واجه اغتيال رهط من أبنائه واحفاده، سقطوا في ميدان المعركة، وهو بعيد عنهم حيث هو في ميدان التفاوض المُر حيث «وسوى الروم خلف ظهرك رومُ»، فاستعدت من أوراقي ما درسته لطلابي في علم النفس السياسي بخاصة حول الموت لعله يساعدني على فهم رد فعل هذا الأب على هذا الحدث الجلل. فرأيت أن أعرض النظرية ثم أسقطها على رد فعل قائد فقد أبناءه وأحفاده.

لقد انشغل علماء النفس كثيرا بدراسة «سيكولوجية الموت»، فالفرد -أيا كان- يدرك يقينا أنه سيموت، ولكنه مسكون برغبة جامحة للبقاء حيا، ومن هنا تتجلى نظرية عدم الاتساق المعرفي (Cognitive dissonance)، فانت مقتنع عقليا بأنك ستموت، ولكنك سيكولوجيا لا تريد أن تموت، فكيف حل الإنسان هذه العقدة بين ثنائية القبول العقلي للموت والإنكار السيكولوجي-الرغبوي- له؟ لقد انقسمت المعرفة في هذا الجانبان إلى القسمين المشار لهما، قسم خلود الروح وفناء الجسد وقسم آخر لا يرى خلودا لأيهما.. أي ان هناك من نظر للأمر على أساس مستقبل مفتوح (وهو الأكثر انتشارا بين الروحانيين من أديان وغيرها) بينما يرى الطرف الآخر أن ليس امامه إلا مستقبل موصدة أبوابه بحكم الفناء التام والأبدي.

وتكاد أن تكون نظرية العالم السويسري «جان بياجيه» حول مراحل فكرة الموت منذ الطفولة هي ضمن المحاولات المبكرة  لتفسير كيف تتبلور الفكرة حول الموت، بدءا من تساؤل الطفل أين فلان والاستماع إلى جواب غامض إلا وهو «مات»، وهذه هي المرحلة الحسية الحركية (sensorimotor)، لكن فهم الموت يتكثف تدريجيا بالوعي المتنامي، ويصل أقصاه عند التعرض للخطر (كالمقاتل) فهو هنا يواجه الموت مرتين: فهو يواجه الموت بالموت، فيقتل خصمه ليطمئن على ذاته، وهنا تتجلى النظرية الأكثر رواجا حول الموت وهي نظرية إدارة الرعب (Terror Management Theory) التي تقوم على محاولة الطمأنة من خلال الذوبان في الجموع (الأسرة /القبيلة /الجيش/الأمة.. الخ)، فالموت هنا يتحول كما في المثل الشعبي العربي «الموت مع الجماعة رحمة».. فالعزلة الفردية تجعل الموت شاخصا مستفردا بك لوحدك، لكنه يتشظى عندما تذوب في الجمع، وهو ما يمنحك -طبقا لهذه النظرية- «الخلود الرمزي»، وهو ما جعل صاحب النظرية (Tomer) يؤكد بالبحث الميداني أن الاضطراب خوفا من الموت أقل كثيرا عند المندمجين في الجموع وجدانا وعقلا، بينما هو أعلى كثيرا عند المنزوين في زوايا الحياة الضيقة الفردية أو محدودة الانخراط في الهم العام.

وعليه فإن انغماس الأب في جموع شعبه في غزة، وذوبانه في ملابسات حياتهم وموتهم جعل مشهد أبنائه الضحايا ضمن المشهد العام، ومن هنا نفهم ما قاله «أبنائي مثل شهدائنا الآخرين»، أنه الذوبان الوجداني والعقلي بين القائد وجموعه، ومن هنا تهون الفاجعة.

أما فرويد فقد عالج هذا الصراع الكامن في النفس البشرية من خلال الصراع بين غريزة الحياة (Eros) وغريزة الموت (Thanatos) بتحويل الموت نحو الآخر أو بتحايل نفسي بأن الموت لا يعني المرحلة الاخيرة فهناك حياة أخرى، وهو ما يجعل الفرد في الحالتين أكثر اتساقا، وعليه فالقائد الغزي توازن في رده لأنه حول الموت الى خصومه، وكان أحد مشاهد ذلك  قبل سويعات يعرض على شاشات التلفزيون لملحمة حي الزنة وحي الأمل في خان يونس، وازداد الاطمئنان لأنه على يقين مطلق بحكم عقيدته أن هناك حياة أخرى ولقاء قادم ،فالمستقبل من منظوره مفتوح لإعادة اللقاء بمن فقد من الأبناء والأحفاد.

اما الباحثة الأمريكية «كوبلر روس» التي طبقت نظريتها على المصابين بمرض يرجح الأطباء أنه مميت، فوجدت أن أغلب المرضى يمرون بمراحل خمس هي: «الإنكار – الغضب – المساومة – الاكتئاب – القبول»، لكن الثوار يمرون بتطبيق إيجابي للمراحل الخمس، فهم يرون الثورة «علاجا» لا مرضا، وإنكارهم موجه لإنكار واقع الاحتلال أو الهيمنة، وغضبهم موجه الى الآخر المسؤول عن المعادل السلبي للمرض وهو الاستعمار أو الاستبداد أو الاحتلال، أما المساومة فهو يمارسها في التفاوض حاملا حقه لينتزعه متكئا على بنادق جنده هناك في غزة، فإن أصابه اكتئاب -المرحلة الرابعة- فهو من «ذوي القربى»، وممن لم يجرؤ على أن يواسيه ببرقية تعزية، وممن أطلق العنان لإعلامه لترويج الأراجيف حول «حياته وحياة نسله الوادعة»، لقد ترحم بعض ذوي القربى على رابين وبيريز وغيرهم من علوج صهيون..

لكنهم رأوا أن المقام في غزة لا «يليق» بهيباتهم.. كل ذلك يستدعي منه بلوغ المرحلة الخامسة في نظرية كوبلر-روس وهو القبول منه ثم من زوجته.. فرفعا معا إشارة النصر، أليس ذلك أبهى دلالات القبول.

ربما.

Please follow and like us:
د. وليد عبد الحي
أستاذ علوم سياسية، الأردن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب